بقلم الدكتور نبال موسى
دُعيت في العام 1986 الى مهرجان قرطاج في تونس. وكنت بحكم عملي كصحفي في مجلتي “المستقبل” و”ياسمين”، وكمقدّم برنامج فنّي في “إذاعة الشرق في باريس” قد تعرّفت إلى الكثيرين من الفنانين العرب من مختلف الأقطار العربية. فقد كان هؤلاء يأتون الى العاصمة الفرنسية من حين لآخر للعمل في مرابعها ونواديها الليلية الكثيرة في الثمانينات خصوصاً وبداية التسعينات.
من بين الذين تعرفت عليهم، وهم كثر، الفنانان التونسيان محسن رايس وفنانة لست متأكدا من أنني أتذكر أسمها لكنني أعتقد أنها كانت منية البجاوي التي كانت تلقّب ب “صباح تونس” كما قيل لي.
في اليوم التالي لزيارتي المهرجان، دعاني الفنان محسن رايس الى جولة سياحية كي يعرّفني خلالها على بعض معالم تونس وأحيائها وأسواقها برفقة الفنانة منية. وبينما كنا نتجوّل في وسط تونس، نادتني الفنانة باضطراب واضح وهي تلوح بوجهها نحو الاتجاه المعاكس للطريق وقالت: نبال، نبال، أنظر الى يمينك والى الرجل الذي يلبس القبعة الخضراء! نظرت الى يميني فرأيت رجلا عادياً يلبس قبعة خضراء عادية! فقلت لها: ما الأمر؟ من هو هذا الرجل؟ ولماذا هذا الاضطراب؟ أجابت: سأحكي لك، لكن لنغيّر طريقنا لأنني لا أطيق رؤية هذا الرجل ولو للحظة واحدة!
ذهبنا باتجاه مخالف وأخذت تروي لي. قالت: كنت منذ أشهر قد حجزت ستوديو الاذاعة لتسجيل أغنية جديدة لي. وكانت الفرقة الموسيقية قد تدرّبت أياماً طويلة على عزف اللحن. ثم جاء يوم التسجيل وذهبت صباحاً الى الاذاعة. وقبل الدخول إلى الستوديو أخبرني المسؤول أن عازف العود الذي كان من المقرّر أن يرافق الفرقة الموسيقية أصيب عشيّة التسجيل بوعكة صحّية مفاجئة، وأنه، كي لا يكبّدني دفع أموال الحجز وحقوق الموسيقيين مرّتين أذا ما تم تأجيل التسجيل بانتظار شفاء العازف المريض، استعان بسرعة بعازف عود آخر ودرّبه طوال الليل على لحن الأغنية، وأن الأمور ستسير على ما يرام.
دخلت الاستوديو للبدء بالاستعدادات، وما إن وقع نظري على عازف العود البديل المذكور حتى كدت أختنق، وصرخت ثم تراجعت الى الوراء بحركة لا شعورية وهربت من الستوديو وسط دهشة الجميع. قلت لمدير الستوديو: لا يمكنني الغناء اليوم، لقد أصابني ألم مفاجئ في معدتي، سأدفع تكاليف الحجز وإيجار الموسيقيين ونؤجّل التسجيل ليوم آخر.
فقلت لها أنا المندهش أيضاً: ولكن لماذا كل هذا؟ ما به هذا العازف؟ من هو؟ لماذا رفضت الغناء والتسجيل؟…فأجابتني: يا نبال، هذا الرجل هو الذي يسمّيه أخواننا في مصر “العشماوي”، أنه هو الذي يتولّى رسمياً مهمة الشنق في تونس، هو الذي يشد الحبل على أعناق المحكومين بالإعدام ثم يسحب الخشبة من تحت أقدامهم…كيف تريدني أن أغني وهذا الرجل يعزف ورائي وأنا أتخيّل أنامله وهي ليست على أوتار العود بل وهي تمسك بحبل المشنقة وأرواح الناس تزهق؟ لا، لا، لا يمكنني أبداً…
كنا قد وصلنا وهي تقصّ عليّ هذه القصة، إلى أمام محل لبيع “البوظة”، فاغتنمتها فرصة ودعوتهما بإصرار لتذوّق شيء منها لعلّها تبرّد وتهدّئ الأعصاب التي وتّرتها هذه القصة الغريبة.
وأخذت أفكر يومها وما زلت: كيف يمكن لإنسان أن يكون عازفا في الصباح وقاتلاً في الليل؟ كيف يمكن للمرء أن يكون عازفاً شديد الاحساس، رقيق المشاعر، ثم يقبض على أرواح الناس ببرودة أعصاب؟ هل هي الازدواجية التي يقولون انها من طبع ابناء البشر وأن أي إنسان يمكن أن يكون قاتلاً وحبيباً وشاعراً في الوقت نفسه على طريقة روايات راسين؟ الجواب يحتاج إلى محلل نفسي خبير، فلندع هذا جانباً الآن.
كنت سأختم هنا هذه القطعة لكنها ذكّرتني فجأة بحادثتين حصلتا في أول شهر من وصولي الى السعودية عام 1999 للمساهمة في إنشاء صحيفة “الوطن”. كنت بعد وصولي بأيام في طريقي الى المكتب عندما رأيت جموعا غفيرة تحتل كامل سور حديقة إمارة عسير. أكثر من ألف شخص. دخلت المكتب غير البعيد عن الإمارة، وفتحت الشباك طلبا لقليل من الهواء. وفجأة سمعت طلقتين. بعد حوالي عشر دقائق جاءني أحد الزملاء فسألته عن هاتين الطلقتين، فقال لي حرفياً: “نعم، كان هناك تعزير ( إعدام بالرصاص) في ساحة الإمارة، كنت هناك، كان رائعاً”. قلت: رائعاً ؟ يا إلهي! كيف يمكنك أن تقول هذه العبارة؟ طبعا امتد النقاش طويلا ولا أريد الدخول فيه الآن.
بعد ذلك بأسبوعين، وأثناء توجّهي إلى المكتب، رأيت المشهد نفسه والجماهير نفسها، فلم أكمل طريقي بل تابعت السير بسرعة في سيارتي نحو مكان بعيد كي لا أسمع طلقات الرصاص، ثم عدت الى العمل بعد أكثر من ساعة. ولم يتكرّر هذا المشهد في ما بعد في الأشهر العشرة التي بقيت خلالها في المملكة.
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثنين