قيل لسقراط من هي أعظم امرأة في نظرك فأجاب:” هي التي تعلمنا كيف نحب ونحن نكره وكيف نضحك ونحن نتألم”.
هل كان سقراط يدرك ان امرأة اسمها ماتيلدا شاوول الحايك ستكون بحق وحقيقة المرأة التي يبحث عنها بعد الاف السنين. هذه الحكمة تختصر حياتها، علّمت الناس كيف تكون المحبة رغم الكره وكيف نستمّد من الألم فرحاً ومن الشقاء سعادة ومن الدموع ابتسامة ومن الكراهية حباّ ومن العدم عطاء لا حدود له.
جمعت في شخصها الفضيلة والمحبة والعمل الدؤوب في خدمة الناس دون تفرقة، فهي كالإناء المقدس للحياة. يُعرف فضلها على الاجيال في كل زمان ومكان. لقد عرفت كيف تنجح من خلال كفاحها وثقافتها ونضجها وتحرر فكرها وبعدها عن الغزو والتبجج وعرفت كيف تجمع ثلاثاً: الفضيلة في قلبها والوداعة على وجهها والابتسامة على ثغرها. عرفتها يافعاً وادركتها شاباً وتعلمت منها الكثير. كنت وأربابي ننتظر كل سنة كلمتها في افتتاح سهرة الجمعية التي تكانت تحييها كل صيف وكنا جميعا نستمع بشغف الى ما خطّه يراعُها من بليغ المقال ومن عمق الفكر ومن صدق الكلمة التي تسلخها من القلب مباشرة ودون تكلف وعناء. إنها اديبة بالفطرة وليست اديبة التصنع والتكلف. تصدر الكلمات منها بعفوية، وتدبّج مقالاتها دون البحث عن الكلمات المنمقة دون السعي وراء الديباجة الرنانة، فالفكر العميق هو الأساس في كل ما كتبت وفي كل ما خطه قلمها الذي كان سفير العقل ورسول الفكر وترجمان الذهن، كأنّي بها كانت تردد قول فولتير:” لا يضيرني ان ليس على رأسي تاج ما دام في يدي قلم”.
حينما قرأت كتاب:” ماتيلدا شاوول الحايك كاتبة نهضوية” الذي اهتم باعداده الصديق الاب مارون الحايك عاد بي الخيال سنين الى الوراء وتذكرت كم كان لمقالات ماتيلدا من أثر في النفس سواء خلال الاحتفالات المدرسية او الاجتماعية أو الثقافية وكم كان لكلماتها من تفاعل مباشر يدخل في عقول الناس على مختلف مشاربهم. جالت فكرا وأدباً في عالم الاجتماع وفي الاخلاق والتربية والوجدانيات والوطنيات والاجتماعيات وفي النظرة الانسانية بشكل عام.
وكانت لها مبادئها وقناعاتها التي لا تحيد عنها، بل كانت تدافع عنها بشراسة دون مواربة وحتى الاقناع.
كانت ماتيلدا نصيرة المرأة الأولى والمدافعة الشرسة عن حقوقها وعن مكانتها في المجتمع والداعية الكبيرة لتعليمها وتهذيبها لتغدو فاعلة في كل وسط وليصبح دورها متساوياً مع الرجل في شتى الميادين. كانت نصيرة العامل وصديقة الطبقات الدنيا، فاطلقت صرختها المدوية:” اجل ان الحكومات لا يمكنها الوقوف بوجه الاختراعات الحديثة والتقدم والعمران، لكن عليها ان تحارب الاحتكارات وتضع حدا لها رحمة بالطبقة العاملة وهكذا تجابه نوعا هذه الازمة القاتلة التي كادت تؤدي الى الخراب والدمار”.
كانت تكره الحرب والعنف وتدعو الى السلام الدائم والمحبة فقالت في احدى مقالاتها:”ان منع الحروب ليس في الحقيقة سوى اتحاد قوي وتحالف مقدس بين الدول الكبرى تشمله المحبة والمساواة والبغض الاكيد والمجازر الرهيبة التي تبكد الفريقين المتحاربين الخسائر الجسيمة في الارواح والارزاق”.
حاربت الكسل ودعت الشباب والشابات الى العمل وعدم الاتكال، فقالت بصوت عال:” انشد الافات واشدّها خطراً على المجتمع هي آفة الكسل، فهي مرض فتّاك ينتاب الهيئة الاجتماعية فيقضي على حياة العمل فيها وينحدر بالامة من أوج المجد الى حضيض الشقاء”.
أما الاسراف والبذخ وهدر الاموال يمينا ويساراً فوقفت لهم بالمرصاد حينما قالت:” علة العلل في لبنان حيثما سرت وكيفما اتجهت تقع بناظريك الى مظاهر الاسراف ودلائل البذخ والترف في العاصمة وفي القرية”.
ولأنها عملت بالصحافة وخبرت صعوباتها ومشقاتها فقد عبرّت عن ذلك بقولها:” ان مهنة الصحافي هي من أصعب المهن وأشرفها مسكين الصحافي في الشرق فانه لا يلاقي التقدير الذي يستحقه بينما زميله في الغرب يتلقى المساعده من كل صوب مرفقة بعبارات التشجيع والثناء ويكفيه الحرية في القول لان الصحافة مرآة الامة وصورتها البهية”. كان ايمانها بالعمل وبالمثابرة وبالكفاح قوي جدا وكانت على يقين ان الخمول هو ما يسقط الامم ويحد من اندفاع الشعوب ورفضت فكرة الحظ التعيس وشددت على ضرورة القيام بواجب الجهاد فقالت:” ان من دواعي تقهقرنا في الشرق اننا نخضع لسلطان الحظ ونؤمن بمقدرة القضاء والقدر وان الحظ هو القوة المسيطرة على مجاري حياة الانسان والذي يتعلق عليها مصيرة”. اطلقتها صرخة مدوية:”العمل والتواصل والتعب وعدم الاتكال إلا على الذات تشكل ضمان تقدم المجتمعات”.
عام 1928 أصرّت في مقال لها على وجوب تعليم المرأة حينما كانت الفتيات في القرى اللبنانية يحظّر عليهن دخول المدارس وتلقي العلوم لكي تحصل المرأة على شهادات تخولها العمل والانتاج.
لقد سبقت زمانها، كانت انساناً رؤوياً فهمت المستقبل وتطور الازمنة منذ عشرات السنين وأدركت السبل الصحيحة لبلوغ طريق الصواب ولكيفية بناء مجتمع صالح من خلال المرأة التي تشكل دعامته والركن المتين الذي يرتكز عليه بناء الامة وشكل التواضع والرصانة والفضيلة.
الاركان الثلاثة للمرأة الصالحة والقادرة على السير بالعائلة نحو الطريق الصحيح. كان فكرها الاجتماعي والسياسي يميل نحو الاصلاح والتحرر والابتعاد عن العزلة والتقوقع وفي مقال بعنوان:” التعصب الديني علة العلل في بلادنا” تقول: اننا بحاجة الى مدارس وطنية تضم مختلف العناصر في الامة. اننا بحاجة الى مدارس مجردة عن التعصب الديني الذميم يتربي فيها المسلم والمسيحي تربية واحدة صحيحة مؤسسة على المحبة الاخوية”.
العلم كان حياتها، سعت لان يكون في متناول الناس كل الناس فهو برأيها انجع دواء لداء التعصب، واشهر مصح يستشفي به اللبناني من هذا المرض العضال هو المدرسة التي يتعلم فيها المسلم والمسيحي علماً واحداً اساسه الاخاء الانساني مع الاحترام.
حتى في السياسة العالمية كانت تستبق الحدث وتقرأ المستقبل قبل حدوثه بسنوات، ففي مقال لها نشر في اربعينيات القرن الماضي تنبأت باعادة النظام الملكي الى اسبانيا وهو ما حدث فعلا عام 1975، فقد أدركت بحسها السياسي ونظرتها التحليلية ان الامور ستسير هكذا في بلاد الاندلس. اما عاطفتها الجياشة تجاه من خسرت من رجال الفكر والادب فكانت تفيض عبر قلمها رثاء صادقاً ينبع من القلب ويعبر عما يختلج في داخله من نبل الاحاسيس كما ظهر يوم وافت المنية الاديبة مي زيادة فقالت فيها:” ماتت مي فانطوى بموتها علم من اعلام البلاغة والعبقرية والنبوغ، وخبا نجم ساطع في سماء العلم والفصاحة والبيان وهوى طود شامخ من اطواد الادب والشرف والادباء”. للشرق الجريح اطلقت صرخة من القلب طالبته بالاندفاع والابتعاد عن الخمول فنادته قائلة:” ايها الشرق الخامل الهاجع في فراش الذل والهوان الملتحف بلحف الجهل والغبارة والقنوع، ايها الشرق الخائن الاثيم، ايها الشرق القاذف بالنابغين من نبيك الى مهاوي الاهمال والنسيان”.
اضف الى ذلك من عيون الادب ما قامت بتعريبه عن الاسبانية والفرنسية مما اغنى المكتبة العربية بروائع من الفكر العالمي والانساني القيم والنفيس. وبعد اذا كنا قد حاولنا ان نفي ماتليدا شاوول حقها كأديبة نهضوية فاننا لن نستطيع ابداً ان نفي ذلك الحق لماتيلدا الانسانة صاحبة الايادي البيضاء ورائدة المشاريع الاجتماعية التي عطفت على المعوذ والمستور والذي قهرته الايام فجعلت من الجمعية النسائية الخيرية الشبابية مرتع احلام كل ذي حاجة وكل تعيس. وهي منذ العام 1953 لا تزال تكمل الرسالة بفضل جهود شقيقتها أولغا اطال الله عمرها التي حملت المشعل بعدها وكانت على العهد امينة مع النساء والشبابيات الخيرات اعضاء الجمعية التي اصبحت بين المؤسسات الانسانية في لبنان مثالا يحتذى.
ماتيلدا من عليائك اسمعك ترددين مع جبران:” القوة تُزرع في اعماق قلبي، وانا احصد واجمع السنابل واعطيها اغماراً للجائعين. الروح تحيي هذه الجفنة الصغيرة. وانا اعصر عناقيدها واسقيها للظامئين. السماء تملأ هذا السراج زيتاً. وانا انيره وأضعه في نافذة بيتي من اجل العابرين في ظلمة الليل. انا فاعل هذه الاشياء لأنني أحيا بها واذا منعتني الايام وغلت يدي الليالي طلبت الموت”.