في زمن عَبَدَةِ الأوثانِ الذين اتّخذوا من الخوف سيِّداً، فاتَّخذَهم الخوفُ له عبيداً، كنتَ جريئاً كالسيف الذي لا ينكسر، جَسوراً كالرّعدِ أعلى الأصوات، بالِغاً في التأثيرِ كالصّدقِ والجرأةِ، ملتَزِماً كالخيطِ المثلوثِ الذي لا ينقطعُ بسهولة.
كلامُكَ كان له غيرُ طَعم، لأنه رحلةٌ باتّجاهِ الوطن، وسُمُوٌّ في الحماسة، وصفاءٌ كَمَنْ تكشَّفت له الطريق، وخطراتٌ رائدةٌ تحرِّكُ فينا هزَّة. وهلِ الكلمةُ إلّا تَدافُعُ خلايا روحيةٍ تَهضبُ في سماءِ النفسِ لتختلطَ بالعَصَبِ والدّم، فتتساقطُ على الرُّقَعِ قُطَعاً من نور، أو شظايا من نار ؟
جبران، يا مَنْ أَغمَضَ عينيهِ ولم يَمُت، كانت المحبةُ مذهبَكَ، لذلك، كنتَ مشدوداً، دائماً، الى الضوء، ومربوطاً، أبداً، بالقِمَم. أَتقنتَ الصراحةَ وهي رِزقُك، فكان عطاؤكَ كما هَلُّ الدِّيَمِ، أو دَفْقُ الينابيع. لقد كنتَ تعيشُ في قلبِ الحريةِ والنور، فعرفتَ أنّ حياةَ الإنسان لا تُقاسُ بِطولِ عمرِه، بل بالصرخةِ الهادرةِ التي يتركُها، ويُردِّدُها بعدَهُ جيل .
أنتَ والوطنُ عَشيرا صِبا، وأَخَوا مُخالَصة، أَلِفَتْ بينَكما جرأةٌ وأيامُ عَناء،فعرفتَ أنَّ أَجزَلَ ما يُقَدَّمُ للوطنِ بعضٌ من حياة، فَسَخوتَ بها حتى آخرِ نَبض. كان بينَكَ وبينَ الوطنِ تَعاطٍ موصول، لبَيّتَ الدعوةَ الى مائدتِه، فَبِتَّ مضمونَ البقاء. لقد آمنتَ باللهِ حقيقةَ الحقيقة، وبالوطنِ عقيدةً سرمديةً لها قوةٌ مُتَفَرِّدةٌ هي مصدرُ عظمةِ المُنتمينَإليها، وهلِ الإيمانُ غيرُ الإكتفاءِ بزاويةٍ تُشاهَدُ منها الحقيقة ؟
جبران، عرفتَ أنَّ الوطنَ غَيور، فما مالَتْ عينُكَ الى غيرِه، وأَيقَنتَ أنَّه أعظمُ الهِبات، وأنَّ محبتَهُ أفضلُ الغِنى،فناضلتَ في سبيلِهِليسودَهُ الحقّ، و يتنعَّمَ بالعدالةِ، والمحبةِ، والسلام،كلُّ ذلك لأنَّك آمنتَ بالحقّ، وبهِ وحدَهُ،فالحقُّ عَمودُ النّظام،وحيثُ يسودُ الحقُّ تُرَبّى الخيولُ للمَزارعِ، ولا تُرَبّى للجُيوش .
كان الوطنُ معكَ نوراً مَحْضاً، تَجوالاً في كَوْن، ناسوتاً ظاهراً تَسَربَلَ بالبهاءِ وتَحَوَّلَ الى الله. الوطنُ، معكَ، نقاءُ النهار، وجَمالُ قَوسِ قُزَح، ولهفةُ الشَّفَقِ الى الإحمرار، وعطرُ زنابقِ الحقول، إنّه دَفْقُ الخيرِ، ووَحْيُ الحقِّ، وفَيضُ الضِّياء.
جبران، وَصِيَّتُكَ ولاءٌ وإخلاص،ودليلُ طريقِ الخلاص، بِها، وحدَها، يَبرَأُ جرحُ لبنان، فهيَ علَّمَتْنا أنَّ الظلمَإِلْحاد، والفسادَ رَجَس،وأنَّ فسادَ الملوكِ هو أَصْلُ مشاكلِ الرعيّةِ، وتَدَهورِ الدّولة، علَّمَتْنا أنَّ النّاسَ
همُ العنصرُ الأَهَمُّ في عناصرِ الوطن، وأمّا الحاكمُ والزعماءُ، فهم أَقَلُّ هذه العناصرِ شَأناً. أمّا شهادتُكَ، فقد علَّمَتْنا أنَّ الأصنامَ لا تستطيعُ أنْ تُغيِّرَ شيئاً في العالَم، وأنَّ الناسَ أُخوَةٌ يَتَسَلَّمون بَرَكاتِ سماءٍ واحدةٍ، فما بالُهُم يتمزَّقون ؟ شهادتُكَ عَلَّمَتْنا أَلّا نقفَ أمامَ الشِدَّةِ التي سَحَقَتِ الوطنَ باكينَ، مُنتَحِبين كالضعفاء، علَّمَتنا أنّ صَريرَ القَلَمِ لَونُهُ أَحمَر .
جبران، عندما سُمِّرَ وطنُنا فوقَ خشبةٍ من لَحمِهِ ودمِهِ، وحفرَ الحزنُ في قلبِهِ أَثلاماً من الحزن، قليلونَ سمعوا بكاءَ الكونِ، وقهقهاتِ الطُّغاة، وقرأوا سِفرَ الشّيطان، وبينَ آلافِ الناس، واحدٌ قد يُجاهِدُ في سبيلِ الحقيقة،وبينَ يَدَيها يَقضي آمِناً سعيدا .
جبران، ليتَهُم عرفوك، لكنَّ الأعمى، وإِنْ حَمَلَ سِراجاُ، فإنَّه لا يُبصِر .