في زمنِ القلق، سادَ ما سُمِّيَ الرواية الوعظيّة، وقد حوَّلَ هذا السَّوادُ أَلَقَ الروايةِ سَواداً، وأصبحتِ الروايةُ، عن حقّ، شهيدةً، بخلُوِّها من النّضارة، والإبتكار، فهي سمعَت، طائعةً وبدونِ احتراس، للإِملاءِ والفَرض، وفقدَت مَذاقَ الإبداعِ الخلّاق، فكانت، في عَينَي الفنّ جَيباً مرقوعاً.
هناكَ مَنْ يرى في الروايةِ الوعظيّةِ حِسّاً ناشطاً يسعى لكي تنقشعَ البُقَعُ من أمامِ بَصَرِ القارئ، وهي بُقَعٌ تشكّلُ حواجزَ صفيقةً تحجبُ وعيَهُ للحقيقةِ، وللصّحيح، وتأخذُ في رقبةِ ذهنِهِ بيدَيها، ليبقى أسيرَ خلفيّاتٍ بائدةٍ علِقَت فيه. ربّما كان وَضْعُ حقِّ الروايةِ الوعظيةِ في نِصابِهِ، ألّا يُساءَ إليها بشكلٍ مُطلَق، فهي، بالرَّغمِ من عيوبِها، تدخلُ في إطارِ التربيةِ التي تُجَسِّمُ اليقينَ، والهدى، والرّشد، والقِيَم، والنّضوجَ الخُلقيّ، على حسابِ الشكِّ، والغِيِّ، والضلالِ، والإنحراف… وكأنّها تركِّزُ على طَعمِ الرَّماد، لتؤكّدَ على أنّ ما يُنتَقَلُ إليه، بعدَ ذلك، أشهى.
لكنّ خطايا الروايةِ الوعظيّةِ تَكرُّ سُبحتُها موزَّعةً بين الصياغةِ، ومأثورِ الخيال، وظلِّ الأحاسيس، وتَوَفُّرِ الفنّ، ونشاطِ الإبداع… وهذه، بالذات، هي الحُلَلُ التي تنسجُ الروايةَ مُنتَزَهاتٍ للقلوبِ، وللعقول، إرواءً لعطشِ التشوّقِ الى البهجة. وعندما تفتقرُ الروايةُ الى هذا النّشاطِ المحمومِ في أروقتِها، وتبقى في مفهومِها التِّقنيِّ التقليدي، لا تخترقُ المُطاوعةَ، عندَها، تدفعُ أكلافاً فادحةً لامِّحاءِ تَميُّزِها، وارتدائِها غيرَ الرّواسب.
إنّ أبرزَ خطايا الروايةِ الوعظيّةِ ثقتُها بالطّابعِ التّعليميٍّ في أُسُسِهِ التّقويميّةِ الهادئة، من دونِ اعتيادِ حالةٍ ثوريّةٍ تُطلِقُ تَمَدُّنَ العقل، على حسابِ الفولكلور، وفَرَماناتِ الإِملاء. وكأنّها، بذلك، ترسِّخُ مفهومَ الإقطاعِ التّربويِّ، ووصايةَ الموروثاتِ من عقائدَ، وعاداتٍ، وممارساتٍ في أساليبِ السّلوكِ، وتفرضُ السَّيرَ على منوالِها، والإحتذاءَ بها، من دونِ أيِّ تَخَطٍّ، أو تجديدٍ، أو إبتكار. فالتقليدُ ليس سوى إجبارٍ على هَضمِ المُنتَقِلِ المُتَكَلِّسِ من جيلٍ الى جيل، ما يُعَسِّرُ مسارَ الترقيّ، وتحريرَ الأذهانِ التّائقةِ الى الحداثة.
أمّا الإبداعُ فقد نفقَ سِعرُهُ في الروايةِ الوعظيّة، وهو الذي يشغلُ أقسامَ الحسنِ في سواها، ويُخرجُ فيها بدائعَ الصُّوَرِ، بتأنّقٍ، وجودة. فالخيالُ محسوبٌ من الغرباءِ الطارِئينَ في سياقِ الوعظِ الذي، لا مجالَ فيه، إلّا للحَشو، فالسَّردُالمُرسَلُ هو نعيمُ الروايةِ الوعظيّةِ، على حَدِّ بعضِهم. والحرامُ، فيها، كما تُشيرُ قوالبُها،هو التَّوقُ الى المَجازِ الذي ليسَ فيهِ سوى قِشرِ الخيالِ البعيدِ عن الواقعِ لالتماسِ مذاهبِهِ المُفيدة، فالإبداعُ الخياليُّ ما هو إلّا شطحاتٌ فانتيزيةٌ هدفُها الزحرفةُ الجوفاء، وما الرّموزُ سوىتلميحاتٍتُمَوِّهُالحقيقةَ الواقعيّةَ الدقيقةَ التي تُحقِّقُ، وحدَها، التوازنَ في العلاقةِ بين الروايةِ وقارئيها.
إنّ الصياغةَ في الروايةِ الوعظيةِ تُشبِهُ، الى حدٍّ واسعٍ، النَّمطَ التّقريريَّ الذي يؤاخي الكتابةَ الصّحفية. لسنا، في هذا المجال، نتنكّرُ للسّهولةِ في اتّصالِ الروايةِ الوعظيّةِ بالنّاس، فالإِفهامُ نَهجُهُ الوضوحُ والبساطة، واستخدامُ الألفاظِ المعروفةِ، والتّعابيرِ القريبةِ من مُتناولِ العامة، والإتّجاهُ الى الهدفِ المقصودِ، تصريحاً. لكنّ تَوَخّي السلاسةِ في الصياغة، مالَ بأصحابِ الروايةِ الوعظيةِ الى توظيفِ القوالبِ الجامدةِ الفاقدةِ للإبتكار، وتكرارِ كليشيهاتٍ مُمِلَّةٍ سبقَ ترديدُها، وبكثرة، بعيداً عن كلِّ تجديد. وما إغفالُ حقِّ الروائيِّ بالمواقفِ الأسلوبيّةِ الضروريةِ، سوى تنازلٍ للقراءِ لاجتذابِهم الى استيعابِ المواعظِ من دونِ كبيرِ عناء.
أمّا الفنُّ الذي يحتوي عناصرَ أدبيّةً تنقلُ الكتابةَ من الإنشاءِ الى الإبداع، ويُغْني بُنيةَ التّدبيجِ بالبلاغةِ التي تُغَلِّبُ، في النصِّ، نزعةَ العبقريّةِ على المُحاكاةِ والتقليدِ والعاديّة، فلا أثَرَ له في الروايةِ الوعظيّة. فهذه تتبنّى خصائصَ يابسةً بعيدةً عن التّرصيع، وأطايبِ التّعبير، والفصاحة، وأحوالُالمحسِّناتِ التي تجعلُ النّثرَ يرفلُ بثوبٍ من الجَمال. من هنا، فمهما احتفلَ الوَعظِيّون بإتقانِ رواياتِهم، فذلك لا يدفعُ الفنَّ الى إعطائِهم تفضيلاً على طبقاتِ ما يُستَطابُ من ذخائرِ التأليفِ الإبداعيّ، وأنواعِ البَيان.
وبعد، إنّ موقعَ الروايةِ الوعظيّةِ من فنونِ الكتابةِ، ضَيِّقٌ بِساطُهُ، وهي، وإنْ كانت لسانَ مَعاظِمِ الشؤون، وليس في ذلك شُبهة، غير أنّ حظَّها من مقياسِ القيمةِ الفنيّةِ بَخس.