يسأل كل إنسان عن ماهية المستقبل الذي سوف يُعاصره بتغيراته المتسارعة و المتلاحقة و كيف للمرء التصرف بحكمة و مسؤولية أمام مفاجآته الكثيرة و تقلباته غير المحسوبة ، و على الرغم من كل ما تم إحرازه من تقدم و ازدهار واضح في شتى المجالات و ما ترتب على ذلك من مُستجدات تكنولوجية ساعدت الإنسان على التحكم في كثير من جوانب الحياة و في بعض مظاهر الكون فلا يزال الذهن البشري يقف مُتسائلاً عن جملة الأحداث الصادمة التي يصعب التنبؤ بها مُسبقاً ، و يزيد من شعور الإنسان بالحيرة هو عدم وجود نمط نظريات و مبادىء عامة يمكن الاسترشاد بها لرسم حياة المرء و تحديد علاقاته المستقبلية مع الآخرين بشكل يدعو إلى الثقة و الاطمئنان ، و إن كلمة أيديولوجيا تعريفاً تعني وجود منظومة من المعتقدات تهدف إلى تغيير العالم حسب رؤية معينة مما يعني بأن هذا المصطلح يحمل في طياته وضع جملة قيود على آراء الآخرين أو حتى رفض الآخر كلياً بكل ما يتضمنه ذلك من تعسف قاسي أحياناً . تظهر على السطح بعض الآراء و الأفكار العامة و النظريات المختلفة التي تُحدد معالم الأوضاع السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية القائمة و لكنها لا ترقى لدرجة تأليف أيديولوجيات بالمعنى الدقيق تماماً للكلمة و ذلك لضيق مجالها إلى حد كبير، و يتبادر إلى الأذهان سؤال هام حول مدى إمكانية قيام مجتمعات إنسانية متماسكة و تربطها ببعضها البعض مبادىء وأُسس دون أيديولوجيات مُسيطرة و موجهة ، و بصرف النظر عن مدى صدق و جدية هذه المُبررات فإن تغير الأوضاع يقتضي وجود أيديولوجيات جديدة و ملائمة و برامج تقنية ذات أبعاد عالية ﻭ تتجلى الحقيقة الأساسية و الواضحة في أن العالم اليوم يقف على مشارف أشد و أعمق مراحل التغير التي عرفتها الإنسانية و تتمايز هذه المرحلة عن سابقاتها بسرعة التغيرات التكنولوجية فيها و مدى ارتباط الناس بها و اعتمادهم عليها كلياً بشكل قد يؤدي إلى نوع من التوحد بين الإنسان و الآلة حتى يصعب التمييز بين ما هو بيولوجي و ما هو آلي.
د. بشار عيسى / سورية