في سياق “منتديات الكتاب قراءة ومناقشة” وضمن فعاليّات جمعيّة “معاً نعيد البناء”، أقيمت نهار الجمعة الواقع فيه 23 حزيران 2023، في مركز سامي مكارم الثقافي – عيتات – عاليه – جبل لبنان، ندوة لمناقشة إشكاليّة التقيّة في أبعادها الفلسفيّة والمعرفيّة والاجتماعيّة، انطلاقاً من كتاب الباحث حسام نصّار، الصادر عن “مركز سيتا“، بعنوان “التقيّة عند الفرق الإسلامية أسبابها ومشروعيتها: الشيعة الإثنا عشريّة والموحّدون الدروز أنموذجاً”.
بدأ الحفل بكلمة موجزة للأستاذ سمير مكارم – رئيس ومؤسس مركز سامي مكارم الثقافي – رحب فيها بأصحاب الفكر النخبوي، مؤكداً على دور المركز في تعزيز ثقافة الابداع وحب المعرفة والخير والجمال، تلتها الكلمة الافتتاحية للدكتورة كريستيان صليبا، مديرة كلية الصحة العامة في الجامعة اللبنانيّة الفرع الثاني والمنسقة العامة لجمعية “معاً نعيد البناء”، موضحةً بأن هذه الأمسية تجمع محورين؛ المحور الأول، هو الثقافة في المناطق، هنا في كنف هذا المركز الثقافي العريق الذي أسس دعائمه الشيخ نسيب مكارم، وشيد بنائه التوحيدي الدكتور سامي، ويكمل مسيرته الثقافية الأستاذ سمير. أما المحور الثاني، فهو محور الكتاب الذي سيناقش كتاب التقيّة للمؤلف حسام نصّار.
تكمن أهميّة الكتاب في الاضاءة النقدية للتقيّة في عالمنا اليوم وفي تواصلنا اليوم الذي يحتاج إلى معرفتنا بعضنا ببعض لنتعرف ونحب ونبني الوطن والمعيّة. صون التعدديّة المعرفيّة والانفتاح لخلق الثقة يوجب التصويب على الانفتاح الفكري والمعرفي الجامع في قِيَمِه الانسانيّة والاجتماعيّة لحفظ التعدديّة في غناها وتاريخها الحضاري في شرقنا. ونوّهت بما اصرّ عليه الكاتب لانه ليس هناك من يمتلك الحقيقة المطلقة ولكننا نسعى دائماً الى استكشافها روحياً، علمياً، دينياً ومعرفياً، فنتوحّد صوبها ناظرين إلى ما بعد “العبارة” إلى احترام الخصوصيات، وما بعد الخوف إلى ما يبني الانسان ويقرّب المسافات الفكريّة صوب منبع الحقيقة والمعرفة اللَدُنية.
ترأست الندوة الدكتورة داليا فرح رئيسة قسم الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة الفرع الثالث، ورئيسة هيئة الكتاب في الجمعيّة. مؤكِّدةً بأنَّ المعرفة هي السبيل الأكيد نحو الحريّة، فالمعرفة تحرّرنا من الأحكام المسبقة والصور النمطيّة، وتحرّرنا من عصبيّتنا لننفتح على المعرفة الواعية الناقدة العقلانيّة. وكتاب حسام نصَّار يمثّل أحد عناصر هذا التنوّع في مجتمعنا، يناقش الكتاب إشكاليّة التقيّة بوصفها سمة وسلوكاً جماعيّاً، ويحلّل ما يتعلّق بمادتها، وبتطور مفاهيمها والخطاب الديني الذي أخذ ينمو معها، بالإضافة إلى تأثيرها على المعارف الدينيّة، وعلى علاقة الجماعة الخاصّة مع الجماعات الأخرى داخل المجتمع اللبناني الواحد. أيضاً، يتطرق الكتاب إلى نتائج التقيّة على أرض الواقع عبر مقاربة أجوبة افتراضيّة على مجموعة من التساؤلات، على أن مهمة هذا الكتاب – كما يقول مؤلّفه – تكمن في إثبات صحتها أو بعضاً من صحتها، أو نفيها بالمطلق، إذ إن التقيّة تعتبر من أهم الموضوعات التي أثرت في مجرى التاريخ الديني والفكري والسياسي والاجتماعي للإسلام بشكلٍ عام، وللإثنا عشرية بشكلٍ خاص، وللموحدين الدروز بشكلٍ أخص.
تلاها مداخلة الدكتورة باسكال تابت، أستاذة الفلسفة الغربية في الجامعة اللبنانيّة وجامعتي القديس يوسف والحكمة، أضاءت فيها على الأبعاد الفلسفية للتقيّة. موضحةً بأنَّ الباحِثَ تناول موضوعًا نادِرًا، موضوعًا يتطلَّب فضولًا عِلمِيًّا وفكريًّا وثقافيًّا وحضاريًّا وسياسيًّا ودينيًّا وأنتروبولوجيًّا، وذلك لأنّه يجمع بين مجالات مُختَلِفَة وليس مَحصورًا بالدين كما يعتَبِرُ البَعض. أمّا الجديد الذي أتى به حُسام نصّار في كتابه هو ربطه لموضوع التديّن بالعلوم الإنسانيّة، فنرى هنا بعدًا أنطروبولوجيًّا مرتبطًا بحياة الإنسان وبشخصيّة الإنسان المتديّن.
ثم كانت مداخلة للدكتورة نجوى حسيكي، أستاذة اللغة العربية وآدابها في الجامعة اللبنانية، حيث سبرت أغوار التقية المعرفية، وقاربت الكتاب من أبعادٍ ثلاث، البعد الأوّل: تناولت فيه التقيّةَ بين الخوف والحبّ، فمن بعد الخوف لم يعد لها جدوى في أيامنا، أمّا من بعد الحب فكثيرا ما يكون المنعُ عطاءً. البعد الثاني: تقيّة المذاهب الدينيّة من منظور الأبعاد الدينيّة الثلاث، وصولا للإحسان بما فيه من اجتهاد مقرون بالطلب الصادق. أمّا البعد الثالث فتبيّن أنّ الحقيقة لا تحتاج إلى من يسترَها، فهي تسترُ نفسَها أو تظهرَها حسب طلبِ النفس أو عدمِهِ. فإلى أيِّ مدىً نحن طلّابُها بحق؟
أما المؤلف، فقد عدّد ثلاث نقاط رئيسة تضمنها كتابه؛ النقطة الأولى، مقاربة مفهومي التقيّتين السياسية والمعرفية من خلال علم الأخلاق. النقطة الثانية، أخلاقيات المعرفة في اكتسابها ونشرها. أما النقطة الثالثة والأخيرة، وهي المخالقة الاجتماعية، تلاها فتح باب النقاش ومداخلات الحضور التي تميزت بتفاعل كبير أغنى اللقاء. وفي الختام، وقع الكاتب كتابه المُنَاقَش.
في الختام، يشكّل هذا الكتاب اليوم مرجعًا للباحثين حول موضوع التقيّة، ويتميّز بغناه وبشفافيّته وبموضوعيّته العلميّة، إذ لا يتبنّى الباحِثُ أي وجهة نظر بل رغم التحليل والأجوبة والاستنتاجات التي يتوصّل إليها يبقى التساؤل مفتوحًا لِيَجعَلَ القارِىءَ أكثر رغبة بالتعمّق في هذا الموضوع.