بقلم الدكتور نبال موسى
كان ذلك عام 1980 وكانت الحرب الأهلية في لبنان على أشدها. كنا مجموعة من الزملاء الصحافيين اللبنانيين في زيارة لكينيا بدعوة من شركة فيليب موريس المعروفة لتغطية السباق العالمي “سفاري رالي كينيا”. وكنا نركب سيارة فارهة تختال بنا في دروب الصحراء الكينية الرائعة والشاسعة حيث يخال المرء أن لا نهاية، لا أفق، وأن لا شيء غير الصحراء المستطيلة إلى ما شاء الله.
كنا نقهقه جميعا سعداء بهذه المشاهد الطبيعية التي لا يمكن وصفها بكلمات، ولا بعشرات القصائد. وفجأة، انقلب كل شيء. غابت الضحكات عن الشفاه، وانقبضت أسارير الوجوه لمجرد أن جورج، سائقنا الكيني البسيط واللطيف الذي يرافقنا منذ يومين من دون أن يتفوّه بكلم إلا إذا سألناه، ولا يتدخل في أمر إلا إذا طلبنا منه، جورج الذي كنا نسخر من بساطته ونخترع له مختلف الصفات والنعوت قال فجأة: “بربكم، لماذا تتقاتلون في لبنان بين مسلمين ومسيحيين؟ لماذا؟ قالها وهو يحملق في وجوهنا وكأنه يصر على جواب.
جاء سؤال جورج الكيني كالحجر الذي يقع في قاع بئر. بقينا جميعا للحظات صامتين تحت وطأة هذا السؤال المفاجئ، ينظر واحدنا إلى الآخر، لا ندري بما وكيف نجيبه على هذا السؤال المعقد. لحظات محرجة ومؤلمة بقدر ما هو مؤلم سؤال جورج البسيط الذي كنا نسخر من بساطته فها هو يسخر منا جميعا… بكل بساطة
“أجبه يا محمد”، قلت لأحد الزملاء الذين يتقنون لغة شكسبير، لكن جورج الكيني تابع يقول: ” أنا من قرية صغيرة فقيرة مسيحية ليس فيها كنيسة، وبجانبنا في الوادي القريب قرية صغيرة سكانها مسلمون. العام الماضي هطلت الأمطار بغزارة شديدة لعدة أيام متتالية وجرفت السيول بعض المنازل كما جرفت مسجد القرية ومعظم المحاصيل. لم يطل بنا التفكير، جمعنا المال وبنينا لجيراننا مسجدا جديدا خلال أسبوع واحد كي لا تفوتهم ممارسة شعائر دينهم. ومرت شهور على تلك الحادثة. وذات يوم جاء شيخ القرية المسلمة إلى قريتنا وقال: هذا مبلغ من المال وصلنا اليوم من إحدى الهيئات الإنسانية كمساعدة لبناء المسجد، خذوه، إنه لكم وابنوا به الكنيسة التي تنتظرونها منذ زمن طويل، وهذا ما حصل بالفعل.”
مرة أخرى التفت إلى احد الزملاء ارجوه أن يجيب جورج بشيء. لكن بماذا يجيبه؟ ومن أين يبدأ؟ فالحكاية طويلة ومتشعبة ومخجلة. وسكت الجميع، لأن كل بلاغة الدنيا لم تكن قادرة على إقناع براءة جورج الطيب الذي احترم سكوتنا وفهم حرجنا وخيبتنا وهز رأسه وأكمل طريقه الصحراوية وهو يردد : لماذا؟ لماذا؟
علمنا جورج درسا لم ولن ننساه. ليت أمتنا ببساطة جورج !
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثنين