في العام 2020 إبان الحجز المنزلي القسري بسبب كورونا، كان لا بد من تمضية الوقت في عمل شيء ما، فعمدت إلى كتابة بعض الحكايات التي امتدت حتى وصلت إلى الستين، نشرتها على فايسبوك وضمنتها بعض ما اختزنته الذاكرة من حكايات وقضايا وأحداث مستقاة من دنيا الصحافة والحياة، وأذيع بعضها عبر إذاعة “أُنس”التي تبث من باريس. وقد لقيت هذه المقالات استحسانا طيبا وخصوصا من كثير من الزملاء الذين نصحوا بنشرها في كتاب.
ثم توقفت عن الكتابة لأنني شعرت بأن ما بقي في الذاكرة لا يمكن نشره لأنه إما يشكّل خطراً على حياتي أو لأنه قد لا يهم الكثير من الأصدقاء. لكن كثيرا من الزملاء والأصدقاء طالبوني أكثر من مرة بمتابعة الكتابة، وكنت في كل مرة أعدهم ولا أفي بوعدي. ومن هؤلاء الصديق طارق زياد وهبة الذي يلح علي كلما التقينا بالعودة إلى الكتابة والذي إليه أهدي هذا المقال الذي لم يكن ليُكتب لولا أن أرسل إلي الصديق الشيخ إبراهيم الخوري بعض الصور التي لم أكن أملكها عن الاحتفال بصدور العدد الأول من مجلة الدولية الأسبوعية السياسية في باريس التي كان لي شرف المساهمة في انطلاقتها وإدارة تحريرها والتي كان صاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ أنطوان نوفل المدير الأسبق لإذاعة مونتي كارلو. والشيخ إبراهيم كان صاحب الشركة التي تولت توزيع المجلة. ولهذا العدد الأول ـــ أو بالأحرى لغلافه ـــ قصة طريفة لا تخطر على بال، أرويها للمرة الأولى.
كان ذلك في أيار من العام 1990، وكان العالم العربي والغربي يغليان على وقع أخبار “المدفع العراقي العملاق”الذي يصنعه العراق والذي أسماه “مدفع بابل العملاق”، وقيل انه سيكون أضخم مدفع في التاريخ وإنه من الضخامة بحيث أن طوله كان سيبلغ 157 مترا ووزنه1510 أطنان وان بإمكانه إطلاق قذائف تزن الواحدة 600 كلغ لمسافة 1000 كلم، كما سيمكنه إطلاق أقمار صناعية !
صاحب الفكرة التي وافق عليه الرئيس العراقي صدام حسين كان المهندس الكندي جيرالد بول أحد كبار خبراء الأسلحة في العالم. في العام 1989، تم إنجاز نسخة مصغّرة من المدفع العملاق بطول بلغ 45 مترا إيعازا ببدء التجارب، لكن الموساد، على الأرجح، استبق ذلك باغتيال المهندس الكندي، ثم جاء بعد أشهر قليلة غزو الكويت وما استتبعه، وانتهى الحلم /المغامرة.
نعود الى موضوعنا بعد هذه المقدمة الطويلة ولكن الضرورية. كان العدد الأول من مجلة “الدولية” سيصدر قبيل انعقاد مؤتمر قمة بغداد الشهير الذي انعقد في 28 أيار 1990 ،وكانت سويسرا أو بريطانيا، لم أعد أذكر، قد صادرت قطعا قيل إنها كانت في الطريق إلى بغداد لتشكّل صاعق “المدفع الصغير”، فأحب أنطوان نوفل صاحب المجلة أن يجامل العراقيين وأن يكون موضوع غلاف العدد الأول حول هذه القمة وبعنوان: “قمة الصاعق”.
لم نكن قد امتلكنا بعد أرشيفاً مهما للصور، بل كنا قد تعاقدنا مع وكالة سيغما المعروفة لتزويدنا بالصور اللازمة. لكن مثل هذا العنوان لا صور له ولا بد من ابتكار شكل يجسّد “المدفع العملاق”أو يوحي به. واحترنا في الأمر. لكن، قبل يوم واحد من طبع العدد، رأيت صدفة على غلاف مجلة طبية من المجلات التي تشترك بها زوجتي الطبيبة رسما معبّراً لإعلان عن دواء ضد الإمساك! وبدا الرسم وكأنه قذيفة تنطلق بسرعة في الهواء في تعبير واضح وصريح عن فعالية الدواء المذكور. فقلت: وجدتها ! أخذت غلاف المجلة الطبية وعرضته على أنطوان نوفل من دون أن أذكر قصة الدواء، فوافق على اقتباسه ووضعه على الغلاف.
وهكذا كان، وصدر العدد الأول وعلى غلافه: “قمة الصاعق”وفي الخلفية على كامل الغلاف صورة مقذوفة دواء الإمساك….
وهكذا، كان غلاف “الدولية”ـــ بمقذوفته ـــ منذراً بمصير “المدفع العملاق”الذي صرفت عليه ملايين الدولارات ولم ير النور.