تراه من يكون…. لم نسمع به، لم نقرأ له شيئا، اسم غريب عنا.
كلمات كلمات سمعتها من الكثيرين عندما بدأت اطلق فكرة تكريم علم من أعلام بيت شباب. حز في نفسي أن الرجل مجهول من أبناء بلدته. مجهول من شبابها وشاباتها ومتروك ربما للتاريخ.
مع أن يوسف من كبارنا ومن الذين تركوا في الحياة الفكرية والأدبية بصمات لا تمحى بين أقرانه، كان المبدع والمآثر والسباق. فعندما يحكى عن الرومنطيقية في الشعر يصنف غصوب بين الأوائل الى جانب الياس أبو شبكة وايليا أبو ماضي ووديع عقل وصلاح لبكي، فيستوي معهم ندا وأكثر.
وتقديرا لعطاءاته الشعرية نال عام 1965 جائزة أصدقاء الكتاب على دواوينه الشعرية، ورغم ذلك بقي في نظر الكثيرين اسماً غريبا لا يعني شيئا. يجهل من يجهل أن يوسف غصوب كان غزيرا في انتاجه الشعري والنثري على السواء إضافة الى مخزونه الهائل من الترجمات.
في النثر كتب “اخلاق ومشاهد” وهي مجموعة مقالات بحثت في الاخلاق والعادت اللبنانية في مختلف شؤون الحياة. وهو يقع في حوالي المئتي صفحة، أما كتابه النثري الثاني الذي لا يقل شأنا عن الأول فهو “بيت الغاب” وهو كناية عن رواية واقعية مسرحها بلدته بيت شباب وتحكي قصة شبابي هاجر الى بلد افريقي، فجمع ثروة وعاد الى بلدته ولكن بذهنية وعقلية مختلفتين عن اترابه المقيمين. وقد أنجزت الرواية عام 1953 ونال عليها جائزة جمعية “أهل القلم”.
له في المسرح ثلاث مسرحيات هزلية هي:” يوم احد في الضيعة – قبضاي طاغية القرية”. وكل هذه الاعمال مستقاة من الضيعة التي عاش احداثها ونقل مشاهداته بصدق وشفافية، فنال جائزة مهرجانات بعلبك المخصصة لأفضل مسرحية عن عمل “يوم احد في الضيعة”.
وله مجموعة من الأقاصيص منها: مهاجر – بين نافذتين – حقد الامومة – المغارة المرصودة بين الحطاب والاسد – القفة – وفي اقاصيصه تميز نهجه بسلاسة العرض ورشاقة الحوار وعنصر المفاجأة وقوة الانفعالية اضافة الى دقته في التحليل النفسي وجمال التصوير والابتكار في صقل الصورة وتظهيرها بفكاهه مستحبة وقريبة من القلب.
له في النثر ايضا مجموعة من الدراسات النقدية والادبية والبحوث والآراء الخاصة في العديد من ابحاثه القيمة: نظرات في الشعر والشعراء – نظرات في الادب واللغة – وغصوب مع أمين الريحاني هو أول من عالج النقد الفني في لبنان بل في الشرق وكلاهما مارسا الرسم لا سيما الكاريكاتوري.
أضف الى ذلك براعة أديبنا بالترجمة وقد بدا ذلك جليا في كتاب petit prince لانطوان دوسانت اكسوبري “الأمير الصغير” فاذا بالتعريب لا يقل روعةً عن الأصل بل وربما فاقه جمالية في استنباط بعض العبارات التي توافق الفكرة دون أن تتوافق مع النص ومع ذلك مثلا عندما التقى الامير الصغير بابن آوى قال له:
Qu’est –ce que signife apprivoiser le renard repond ca signife creer des liens وهنا حبكت جمالية يوسف فترجم apprivoiser بالعربي بـ “ادجنني” ثم قال الثعلب لقد دجنتني وله ايضا دراسة قيمة عن تيارات الحضارة بين الشرق والغرب وعن بيروت القديمة وسواها العديد من الابحاث التي لم ينشر قسما كبيرا منها.
اما في الشعر فكان مجليًا. كان شعره صدقا ينبع من أحاسيسه تجيئه الكلمات دون تكلف ودون عنا ودون جهد. تجيئه الكلمة بعفويتها بانسلاخها من قلبه ومن صميمه.
تتجلى الشاعرية بداية بعناوين الدواوين: القفص المهجور – العوسجة الملتهبة – قارورة الطبيب – الابواب المغلقة – في ربيع شابه عام 1928 صدر القفص المجهور وفيه:
إن قلبي بعد أن مات الهوى قفص أفلت منه البلبل
موحش كالقبر لا ينتابه رغبة أو رهبة أو أمل
وفي الانتظار قال:
قربت ساعة اللقاء وغاضت في دجى الليل كبرياء النهار
ومن القلب والرياض تعالت نفحات الغرام الازهار
هذا كان أول الغيث. أما وقد بلغ خريف العمر فقد أصدر انتاجه الأخير ودخل غرفته وأغلق ستائرها وأبوابها. فكان عنوان الديوان خير معبر عن ما يختلج في الصدر وهو “الأبواب المغلقة”.
أغلق الأبواب من عام 1965 حتى عام 1972 حين وافته المنية بعد صراع مع المرض والعذاب. شعره كان بحق حالات نفس وحالات قلب وحالات أحاسيس عاشها وعايشها وسلخها من ذاته رقة شعور ولطف خيال وصدقا أكيداً.
وقد اختصر كل شعره بابياته الثلاثة:
هذي أناشيد موقعة انغامها الحري من كبدي
لا حكمة فيها ولا عظمة بل صورتي صورتها بيدي
حالات نفسي في مسرتها أو في كآبتها ولم ازد.
وقد تولى أديبنا رئاسة مجلس المتن الثقافي لسنوات وأنجر الكثير من المشاريع والنشاطات.
ما جئت في كلمتي أحلل أدب وشعر يوسف غصوب، حسبي أني ألقيت الضوء على إنتاج ضخم كاد يغلفه النسيان لولا همة الصديق الدكتور جميل جبر الذي رافق غصوب ثلاثين سنة والذي عاش معه وأحبه. فشحذ الهمة مع ابنه وجيه واستطاعا ان يجمعا التراث القيم في خمس مجلدات لتبقى زخرا للأجيال.
واستشهد هنا بما كتب الدكتور جبر عنه:
” هذا الشاعر الذي عاش على ايقاع عصره المتوتر خلال حربين استعاد بالكلمة وسيلة هروب، خشبة خلاص وهو ما جعله رغم غربته قريبا الى كل قلب نقي.
وقد سألته في آخر حياته:ما أحب قصائدك اليك: فسمى أولاده وقلت: وانت احب قصائدك الينا لان شعرك مرآة نفسك الناصعة”.
وبعد يصح في يوسف غصوب قول قائل:
يموت رديء الشعر من قبل اهله وجيده يبقى وان مات قائله
الى روح يوسف غصوب اختم:
ينادي كثير من الناس في ايامنا هذه ان الشعر قد ولت أيامه. غريب عجيب ما يقولون كأنههم يرددون: ان الورد لن ينبت بعد وأن الربيع قد لفظ أنفاسه، وأن الشمس كفت عن الشروق، وأنك تجول في المروج الخضراء فلا نصادف فراشة طائرة… كأني بهم يقولون:
انه لن يبكي بعد اليوم احد على قبر ولن تحب أم وليدها وان انوار السماء قد خمدت وقلب الانسان قد توقف عن الخفقان.
لأجل كل ذلك لن يموت الشعر وسيعود الحسون الى القفص وستلتهب من جديد العوسجة وستمتلىء القارورة طيباً ولن تغلق الابواب بعد يا يوسف.