بعيدا عن دوامة الانتخابات الإسرائيلية، والسيناريوهات المحتملة لتشكيل الحكومة الإسرائيلية وآثار ذلك على القضية الفلسطينية عموما وأهلنا في الداخل الفلسطيني، وعلى ما يسمى “صفقة القرن”، وبعيدا عن أهم دلالات تلك الانتخابات وفي مقدمتها الإنجاز الذي حققته القائمة العربية المشتركة بفضل الوحدة وإدراك مخاطر حملة التحريض العنصرية التي شنها نتنياهو ويمينه المتطرف ضد الفلسطينيين، وكذلك دق المسمار الأخير في نعش “صفقة القرن مع فشل وسقوط نتنياهو حليف ترامب في تلك الصفقة، بعيدا عن كل ذلك آثرت اليوم أن أتناول في مقالي الأسبوعي جريمة قتل الشهيدة إسراء غريب، التي تحولت قضيتها الى قضية رأي عام ونظرا لما تخلفه مثل هذه الجرائم على أمننا الاجتماعي الذي يشكل جزءا لا يتجزأ من حصانتنا الوطنية في مواجهة التحديات الجسام الماثلة أمامنا.
لقد وقف الإنسان الفلسطيني أينما كان، والذي يقاوم الاحتلال الإسرائيلي منذ ٧٢ عاما، مذهولا أمام هذه الجريمة البشعة التي اتضح بعد ما اجري من تحقيقات، تحدث عنها النائب العام، أن مرتكبتها من عائلة وأقارب إسراء، وأنها تمت بطريقة بشعة من الأجرام ما يقترب من إجرام وقتل الفتى الشهيد محمد خضير، مع الفارق بالطبع بين الحالتين.
شعبنا الفلسطيني، الذي يعتبر من الشعوب المثقفة والمتعلمة وقف مصدوما إزاء جريمة قتل هذه الفتاة، لا لشيء سوى أن ذنبها الوحيد أنها التقت مع من تقدم علنا لخطبتها وفي مكان عام ومع إحدى قريباتها. ولو أنها ارتكبت لا سمح الله أي فعل محظور لما وضعت صورة ذلك اللقاء ليراها أصدقاؤها وأبناء عائلتها والمجتمع الفلسطيني الذي تعيش فيه. أي أنها كانت تريد أن تفرح بعقد قرانها على من اختارته زوجا.
إن مثل هذه الجريمة التي تغلف بدعوى الشرف في كثير من الأحيان لا صلة للشرف بها بل أن مرتكبي هذه الجرائم هم أنفسهم عديمو الشرف الذين يرتكبونها ظلما وبهتانا دون أي وازع من ضمير ودون أي رحمة خاصة عندما يكون مرتكب الجريمة من الأقارب المقربين للضحية.
ونذكّر كل مرتكبي هذه الجرائم أن الإسلام، ديننا الحنيف، وضع شروطا قاسية لإثبات جريمة الزنا وفي مقدمتها رؤية أربعة رجال لتلك الجريمة ، وذلك حفاظا على النسيج الاجتماعي ولتجنب الأثار المدمرة للشائعات، علما أن جريمة قتل إسراء لا علاقة لها بذلك وان ما نقول هذا بشأن جرائم ما يسمى بالشرف عموما.
وحتى إن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعندما أتته امرأة واعترفت بزناها قال لها أن تعود من حيث أتت ، وبعد أن أبلغته أن الجنين يتحرك في أحشائها أمرها بالعودة حتى تلد، وبعد أن عادت إليه بعد ولادتها وطلبت منه تطهيرها من الإثم الذي ارتكبته قال لها الرسول عليه الصلاة والسلام أن ترعى جنينها حتى يفطم … وباقي القصة معروفة. أي أن الإسلام يدين مرتكبي جرائم القتل تلك وحتى الجريمة الأصعب كالزنا يتعامل معها بشروط وبحكمة.
أما هذه الفتاة إسراء فإنها لم ترتكب أي فاحشة، لا سمح الله، فكيف يحق لأحد حتى لو كان من عائلتها أن ينهال عليها بالضرب، ليكسر عمودها الفقاري، ومن ثم يلاحقها الى المستشفى، وهي تصرخ لطلب النجدة من هؤلاء المجرمين، ولا من مجيب من أمن المستشفى أو الأطباء أو أي أحد بحجة أن أهلها لهم كامل الحرية .
والأبشع أيضا ما تم طرحه من أكاذيب حول سقوطها من أعلى مما أدى لكسر عمودها الفقاري أو أكذوبة أن الجن تلبسها وهو ما نفاه تقرير النيابة العامة الذي أكد أن إصاباتها التي أفضت الى الوفاة سببها تعرضها للضرب٠
وهنا يتساءل المرء: أين هو أمن ذلك المستشفى الحكومي؟ وأين هم الأطباء والمساعدون ؟ وأين هو أمن السلطة الفلسطينية التي عليها واجب حماية الشعب من هؤلاء المجرمين، خصوصا في مستشفى حكومي؟ وأين كان مدير المستشفى أو مساعده إزاء كل ما حدث؟ وإزاء صراخها الذي يسمعه الحجر قبل البشر، طالبة النجدة؟
تساؤلات كثيرة في هذه القضية حول دور الأمن والشرطة والنيابة والمستشفى تستوجب الإجابة كما تستوجب استخلاص الدروس والعبر.
وفي الوقت الذي نفاخر فيه أننا شعب مثقف ومتعلم ، فإنه وللأسف ما زال البعض يمارس شريعة الغاب، البعيدة كل البعد عن الإسلام وعن القوانين والأعراف الإنسانية، فيما يسمى جرائم الشرف، حيث للرجل الحق بممارسة ما يريد أما الأنثى ليس لها أي حقوق مدنية أو إنسانية.
وهنا فإننا نناشد الأخ الرئيس محمود عباس والأخ رئيس الوزراء الدكتور محمد اشتية، ومطالبة النائب العام ورئيس جهاز أمن السلطة لملاحقة كل من ثبت أنه قصّر في التعامل مع هذه القضية سواء من أفراد الأمن أو من مسؤولي وطاقم المستشفى أو ممن روّجوا سخافة الجن ، والعمل على استنفاذ القانون مع من ارتكب هذه الجريمة البشعة، الذين قتلوا هذه الفتاة البريئة، بمحاكمتهم وإنزال أشد العقوبات الرادعة بحقهم.
كما نناشدهم بالعمل على إصدار قوانين تشدد عقوبات اؤلئك الذين يرتكبون مثل هذه الجرائم.
وفي نفس الوقت نهيب بوزارة التربية والتعليم وكل الأطر التربوية والإعلام المرئي والمسموع لشن حملة واسعة وتسليط الضوء على هذه الجرائم وتبيان مخالفتها للدين وللقوانين والتشريعات الإنسانية.
ونهيب أيضا برجال الدين للقيام بواجبهم في هذا الشأن فلا يعقل أن تتواصل مثل هذه الجرائم وان يتلفع البعض من مرتكبيها بالدين في تبريرها وهو منه براء.
ومع الأسف فان البعض ما زال يعيش بعقلية العصور الحجرية ، وعصر الجاهلية ما قبل الإسلام عندما كانوا يئدون المولودة الأنثى وهي حية. فالقتل بدعوى الشرف يعبر عن التخلف والجهل، ومخالفة قواعد الإسلام ، وجميع الديانات السماوية والشرائع الإنسانية.
لقد آن لهذه الظاهرة البشعة أن تتوقف، وقد آن لهذا التدمير الاجتماعي الذاتي أن يتوقف وعلى جميع أجهزة الدولة تقع مسؤولية تثقيف هؤلاء الجهلة، وخصوصا الأعلام الرسمي، الذي يشرف عليه الأخ الوزير أحمد عساف ، الرجل الذي نكن له كل التقدير والاحترام .
وفي نفس الوقت فإنني أنصح فتياتنا بان يحذرن الشباب الطائش لان لدينا عادات وتقاليد لا بد من مراعاتها، وعدم تجاوزها، وللأسف فان بعض الشباب يحاول التلاعب بعواطف الفتيات ويتصرف تصرفات خارجة عن المتعارف عليه في مجتمعنا.
كما أقول لشبابنا بأن المرأة هي الجنة المتحركة على الأرض، فهي الأم والأخت والزوجة ، وعلينا مراعاة شعورها خصوصا عندما تصبح زوجة وأم لأولادكم، فلا تتلاعبوا بعواطفهن ولا تلجأوا الى العنف بحقهن، ونذكرهم بأن شعبنا له عاداته وتقاليده للحفاظ على أعراضه وشرفه، وإذا حصل أي تجاوز لهذه التقاليد فمما يؤسف له أن يلجأ البعض الى ارتكاب جرائم بعيدا عن القانون، ويجب التريث دوما وسماع وجهة نظر الفتاة، ومن ثم يكون الفصل إما بالتراضي أو اللجوء للقضاء حتى لا نقع في فخ الشائعات التي كثيرا ما أزهقت أرواح فتيات ونساء كثيرات.
إنني أناشد أبناء شعبنا أن يترفعوا عن ارتكاب هذا النوع من الجرائم. وليتذكروا أن كل فتاة تحلم بزواج سعيد ممن اختارته أو اختارها. والله تعالى رؤوف رحيم.
وأخيرا نقول ليرحم الله الفتاة البريئة الشهيدة إسراء غريب التي قتلت ظلما وبهتانا وليكن ما حدث درس لنا جميعا نستخلص منه الدروس والعبر حتى لا تتكرر مثل هذه المأساة.