منذ أيّام قليلة، فوجئتُ بادّعاء بعضٍ من كثيري الثّرثرة وقليلي الفَهم، بأنّ انفجار المرفأ كان نتيجة إهمال فقط، وبالتالي، ينبغي صرف النّظر عن أيّ سبب آخر، له، أيًّا يكنْ هذا السّبب. وقد ذكّرني هذا البعض،بهَذَيانه، بما اعتادت الشّعوب القديمة أننتعاطى مع الأحداث، من مصائب ونوائب، على أنّها من الغَيب، فتحيلها الى ” الغامض “، وتوجِد لها تفسيراتٍ خُرافيّة، وفي ذلك تملّصٌ من المسؤولية، ونَفضُ اليدِ من تداعياتها السّالبة.
إنّ ما جرى في الرّابع من آب، لا يستلزم كبير عناء للتّدليل على أنّ ما حدثَ ليس من باب الأسطورة، وأنّ الذين كانوا على مساسٍ مباشر مع الجريمة الدّمويّة، أطلقوا التّصريحات التّخديرية التي يتذكّرها الناس بحسرة، ولا سيّما، منهم، أهل الضّحايا، بل الشّهداء الذين قَضَوا بدون ذَنْب. ولمّا يزل المُلَوَّثون بالجريمة الذين دَلَّت عليهم أصابعُ الاتّهام، ومَنْ ” يُغَطّيهم “، يحاولون امتصاص النّقمة، بكَذِبٍ مقنَّع، وكأنّهم لا يعرفون أنّ النّاس جميعًا، وفي مقدّمهم الذين فُجِعوا، هم متأكِّدون من أنّ ” المُجرِمين ” لهم باعٌ طويلة تحت جِلد السّلطة، وهم الخَلطة المستأثِرة بالقرار، في مستوياته العُليا.
إنّ الدّليل السّاطع على مسؤوليّة المجرمين المعروفين، هو عرقلة التّحقيق، بمعنى عرقلة الحلول الفنيّة بالحلول السياسيّة، وذلك لإلهاء النّاس عمّا اقتُرِفَ بحقّهم، وبحقِّ العاصمة والوطن، وجعل السلطة القضائيّة ذبيحة مدنَّسة، ما أدّى، حتمًا، الى التوتّر المحتوم، واتّجاه أولياء الضحايا الى تَدويل القضيّة.
إنّ سقطة السّلطة، عندَنا، ليسَت بمشيئة تفوق إرادة البشر، فالجرائمُ والموبقات ليست مُقَدَّرة أو مفاجِئة، بل لها مسبِّبات و” أبطال “، ولمّا كان من حقّ الناس المعَلَّقين فوق هاوية، أن يعرفوا الحقيقة التراجيديّة، فإنّ الأَذرع الأخطبوطيّة نحرَت الحقيقة، وسمعة الوطن، وداسَت على وجعِ المفجوعين، بل البلاد بأسرها، فأضافَت الى جريمتها الموَثَّقة، جريمةً قوامُها التأصّل في الفساد، وهرطقات الرِّياء والتّهديد الدّونكيشوتي.
لبنان كان، ولمّا يزلْ، في زمن صَدأ العدالة، وبات يائسًا، بعد هذا الليل الطّويل، من أنّ الشّمس ستعودُ، حتمًا. فالنّاسُ المسكونون بالخوف، لا يرَون بصيصًا لفَرَجٍ قريب، وهم مُصابون بإحباطٍ أفقدَهم الثقةَ بالوطنِ نفسِه، وليس، فقط، بالدولة. فبعد خمسٍ من السّنين، لا تزال جريمة المرفأ، وهي من أسوأ الكوارث التي شهدها مجتمع البشر، في طَيِّ التّسويف، وفشل القضاء في التّدليل على المُرتَكِبين، وممارسة الضّغوط لتجميد توجيه الاتّهامات لمسؤولين في السلطة، وخارجها…
لا بدَّ من انفجارٍ وطنيّ يزلزلُ السّلطة، ومَنْ يلوذُ بها، ومَنْ ” يُقَوطِب ” عليها، فانفجار المرفأ هو جريمة جنائيّة ارتكبَ أصحابُها القتلَ القَصديّ، إنْ بتخزين المواد الخطيرة، وإِن بعدم إِعلام السّلطات المختصّة بوجودها، وإِن بعدمِ اتّخاذ إجراءاتٍ رسميّة لمنعِها.. فالمسؤوليّة تقعُ على المستَورِدين المستَقوين المعروفين، وعلى أعوانهم من الذين يتقلّدون المناصب، لذلك، فقد حيلَ دون الوصول الى عدالةٍ ناجزة، والى مساءلةٍ ومحاسبة.
يبدو أنّ جريمة المرفأ تخضعُ، عندَنا، لتسلّطٍ ” فِرعَونيّ ” يستحسنُ الظّلم، ويختم على العدالة بالشّمع الأحمر. أوليس جديرًا بنا أن نكرِّمَ هذا الشّمعَ الشّاهدَ، وحدَه، على الجريمة الكبرى ؟؟؟