كان انفجار المواد الكيميائية في ميناء بيروت أغسطس/ آب 2020، أحدث فصل في سلسلة الأحداث الكبرى التي يشهدها لبنان، والتي كان لها تأثير كبير على الانهيار الاقتصادي الذي يشهده اقتصاد البلد العربي الآسيوي على مدى السنوات الماضية
منذ العام 2011، يشهد اقتصاد لبنان تراجعا ملحوظا في النمو الاقتصادي، فبعد أن حقق نموا بمعدل وسطي يبلغ 5.8 بالمئة خلال العقد الأول من الألفية الجديدة؛ تراجعت معدلات النمو خلال السنوات الـ10 الماضية. ذلك التراجع خاصة بدأ من العام 2015، إذ حقق الاقتصاد اللبناني معدل نمو بنسبة 0.21 بالمئة في ذلك العام، وبنسبة 1.63 و0.85 بالمئة في العامين (2016 – 2017)، قبل أن ينزلق إلى الانكماش بنسبة 1.92 و5.63 بالمئة في عامي (2018- 2019) تواليا. يعتمد الاقتصاد اللبناني بشكل كبير على قطاع الخدمات، كما يرتكز اقتصاده بشكل كبير على واقع جواره، فمن جهة أولى يتنفس لبنان من خلال سورية منفذه البري الوحيد تجاه جواره المباشر.
ومن جهة أخرى يمده جواره، وبخاصة في دول الخليج، بالدخل من خلال السياحة والاستثمار والتحويلات الخارجية كذلك. نتيجة لذلك، تبدو واضحة معاناة الاقتصاد اللبناني من عواقب التراجع الاقتصادي في الخليج الذي أعقب الانخفاض في أسعار النفط، وكذلك من تأثيرات الأزمة السورية وغيرها من التوترات السياسية الإقليمية. بعد عامين متتاليين من الركود، من المرجح أن يكون انكماش النشاط الاقتصادي عام 2020 شديدا للغاية، إذ تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 25 بالمئة في 2020، وهو ثالث أسوأ أداء على مستوى العالم بعد فنزويلا وليبيا. آثار هذا الانكماش جليةٌ للغاية، ولعل أبرزها ظهر في 7 مارس/ آذار 2020، حين أعلن مجلس الوزراء اللبناني قراره «تعليق» سداد سندات «يوروبوند» بقيمة 1.2 مليار دولار، وهو التخلف الأول في تاريخ البلاد عن دفع ديونه، في ظل الأزمة المالية التي يعيشها لبنان المثقل بالديون. إذ يرزح البلد تحت ديون تصل قيمتها إلى 92 مليار دولار، نحو 170 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي بحسب وكالة التصنيف الائتماني «ستاندر أند بورز»، وتعد هذه النسبة من بين الأعلى في العالم. منذ بداية العام 2020، كان لأزمة ميزان المدفوعات تأثيرات كبيرة على الاقتصاد المحلي، ولعل أبرز تأثيراتها كانت في السقوط الحر الذي تشهده الليرة اللبنانية. وبعد أن حافظت الليرة على سعر صرف مستقر لما يقرب من 20 عاما عند حوالي 1500 ليرة للدولار الأميركي الواحد، فإن الليرة اللبنانية تسجل يوميا تراجعات قياسية. ففي 9 يوليو/ تموز 2021، لامس سعر صرف الدولار مقابل الليرة حاجز 19.400، مرتفعا بنحو 1700 ليرة في أقل من 24 ساعة في السوق الموازي، في حين ما زال السعر الرسمي المحدد من المصرف المركزي عند 1510 ليرات. حتى وصل الامر الى تسعير الدولار اليوم بحوالى 89500 ل.ل.
اقتصاد ما بعد الحرب الأهلية ودوّامة الدّين
اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975، ودامت لأكثر من 15 عاما، من أبريل/ نيسان ذلك العام إلى أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1990. وبشأن المدة والخسائر المادية والبشرية التي تسببت بها، تُعتبر الحرب الأهلية اللبنانية أحد أكبر الحروب التي شهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى أواخر القرن الـ20.
قبل اندلاع الحرب، كان الاقتصاد اللبناني يسير بسلاسة بمعدلات نمو عالية، وإذا ما أخذنا ذلك في الاعتبار، يجدر هنا طرح سؤال محوري، مفاده أنه لماذا لم يتمكن الاقتصاد من إعادة الإقلاع بعد انتهاء الحرب؟.
الإجابة المبسطة لهذا التساؤل هو أن نتائج الحرب اللبنانية كانت مدمرة للغاية لعمل الاقتصاد، فمن جهة تُشير التقديرات إلى أن الخسارة التراكمية للإنتاج والدخل الحقيقي (فقدان الإنتاج المحتمل) الناجمة عن الحرب بلغت حوالي 24 مليار دولار أميركي. ومن جهة أخرى، عانى الاقتصاد من دمار هائل في مخزون رأس المال، وتشير التقديرات إلى أن مجموع الأصول المادية التي دمرت خلال الحرب بلغت حوالي 25 مليار دولار أميركي. بالإضافة إلى ذلك، أدت الحرب إلى تدمير قدر كبير من رأس المال البشري، من خلال خسائر الحرب أو الهجرة، إذ تُقدر الوفيات المرتبطة بالحرب بـ 131 ألف وفاة، في حين تُشير التقديرات إلى أن ما يُقارب نصف مليون شخص هجروا لبنان بسبب الحرب. إن التضخـم الشـديد الـذي بـدأ فـي الثمانينيـات واسـتمر حتى العام 1992، نتيجـة انهيار الليرة اللبنانية، ساهم، بشكل مقصود، في نقل كميـات هائلـة مـن الثـروات مـن العمـال إلـى النخـب الاقتصاديـة. وباختصـار، بيـن عامي (1984 – 1992) انخفضت قيمـة الليرة اللبنانية بشكل دراماتيكي مـن 4.5 ليرة للدولار الواحد، إلى 1800 ليرة للدولار الواحد عام 1992، وهو انهيار مهول ومشبوه إلى حد كبير. إذ كان ناتجـا بشكل كبير عـن مضاربـات قامـت بهـا المصـارف اللبنانيـة ضـد الليـرة اللبنانيـة وفـي الوقـت عينــه كانت تقوم بتكديس العملات بالدولار الأميركي، بالإضافة إلى تقديم القروض إلى عملائها المفضلين بالليرة اللبنانية من أجل أن يتمكنوا من شراء دولارات أميركية. وتُشير التقديرات إلى أن الحرب تسببت بإحداث عملية إعادة توزيع ضخمة للدخل، وبخاصة لجهة تخفيض نصيب الأجور من إجمالي الدخل من نسبة (50 – 55) بالمئة ما قبل الحرب، إلى حوالي (15 – 25) بالمئة في نهايتها. كان الاقتصاد اللبناني ما قبل الحرب اقتصادا تهيمن عليه الخدمات، البنوك والتجارة والسياحة، وهي قطاعات تحتاج رأس مال بشري مؤهل ومدرب لازدهارها، وكانت الطبقة المتوسطة في لبنان مصدرا رئيسا لهذه الموارد المؤهلة. وكان السكان الشباب يستثمرون بشكل كبير في رأس المال البشري لتزويد سوق العمل بقوة عاملة ذات مهارات عالية ليتمكن الاقتصاد من تحقيق نمو اقتصادي سريع. وهو ما افتقده الاقتصاد بعد الحرب بسبب رئيس يتمثل بتدهور الطبقة الوسطى، وانخفاض جودة التعليم، وهجرة الكفاءات. انطلقت إعادة إعمار لبنان رسميا في العام 1992، مع تولي رفيق الحريري رئاسة الحكومة اللبنانية شرعت تلك الحكومة على الفور بوضع خطة لإعادة الإعمار في لبنان سُميت «هورايزون 2000» وتكونت هذه الخطة الطموحة من برنامج واسع للإنفاق الاستثماري لتحقيق أهداف الاقتصاد الكلي في الفترة من (1993 إلى 2007). خلال الفترة الأولى من إعادة الإعمار، يمكن القول أن الاقتصاد اللبناني حقق ما بين العامين (1992 – 1998) بعض النشاط الناتج عن استثمارات إعادة الإعمار. وتمكنت حكومة الحريري من تحقيق نمو اقتصادي بمعدل وسطي بلغ 6.3 بالمئة خلال الفترة مدعوما بتجدد الثقة في الاقتصاد وارتفاع النفقات العامة الجارية والرأسمالية. ومع ذلك، من الواجب القول أنه، وعلى الرغم من تحقيق الاقتصاد اللبناني طفرة «محدودة» في النمو الاقتصادي خلال فترة إعادة الإعمار تلك، إلا أنها كانت الفترة التي بدأت فيها كرة الدين العام بالتدحرج والنمو. كما أنه، من ناحية أخرى، لم تكن طفرة النمو التي شهدها الاقتصاد آنذاك مستقرة بطبيعة الحال، وهذا مرده إلى عدم الاستقرار المالي من جهة، ومن جهة أخرى لأن خطة إعادة الإعمار كانت عبارة عن سلسلة من المشاريع بدلاً من أن تكون خطة شاملة للتنمية أو إعادة الإعمار. وفي الوقت الذي لم يتم اعتمادها بكليتها كان يتم اعتمادها مشروعا تلو الآخر خلال فترات حكومة الحريري الذي خرج من رئاسة الحكومة مع انتخاب قائد الجيش العماد إميل لحود لرئاسة الجمهورية في العام 1998. بعد انتخاب إميل لحود لرئاسة الجمهورية في نوفمبر/ تشرين الثاني 1998 وخروج رفيق الحريري من رئاسة الحكومة، تم اختيار الاقتصادي المخضرم سليم الحص لخلافة الحريري. صاغت حكومة الحص آنذاك خطة تقشف تهدف إلى وقف نمو العجز العام والديون، إلا أن الاقتصاد اللبناني دخل في حالة من الانكماش على صعيد حركتي الاستثمار والاستهلاك، ما أثّر على الحركة الاقتصادية وعلى الواردات المحققة في المالية العامة.
وأمام هذا التراجع في الأداء الاقتصادي، زاد العجز المالي وارتفع الدين العام إلى حدود 146 بالمئة من حجم الناتج المحلي نهاية العام 2000، في حين أن النسبة كانت 5.15 بالمئة في قبل اندلاع الحرب في العام 1973، وأقل من 44 بالمئة في العام 1981 قبل الاجتياح الإسرائيلي.