بقلم د.نبال موسى
إذن، و كما ذكرت في مقالي السابق، اجتزت عقبة الحصول على التفرغ للتدريس في الجامعة اللبنانية مع بعض الصعوبات. وكنت اعترفت في المقال نفسه بالفضل في ذلك للدكتورة زاهية قدوره والأستاذ احمد ابو حاقة. ولا بد لي اليوم ـــــ ولو بعد خمسين عاماّ ـــــ من شكر الدكتور سامي حداد الذي ساعدني ايضا.
بعد سبعة أشهر من بداية العام الدراسي الجامعي، اندلعت شرارة الحرب الاهلية اللعينة في لبنان، وسار التدريس مسارا غير منتظم بين جولة وأخرى، وبين خطف وذبح “على الهوية”، وسبت اسود وما إلى ذلك من بشاعات وهمجيات لا توصف… حتى جاءت العطلة الصيفية. كنت أقيم أنا وشقيقي في شقة في الحازمية، وكانت الطرق نحو طرابلس، حيث منزل الأهل، مقطوعة بسبب المعارك، فبقينا محتجزين في بيروت.
في احد أيام تموز، اقترح علينا أحد الزملاء الذي لم أعد أذكره، ولعله الدكتور سامي حداد، أن نصعد إلى الجبل ونتناول الغداء في أحد المطاعم هناك للترويح عن النفس من الحجز القسري في العاصمة.
صعدنا وتناولنا الغداء، وأثناء العودة قال الزميل والصديق، ونحن نمر في منطقة لم اعد اذكرها وربما كانت برمانا: على فكرة، الدكتور فكتور الكك “يصيّف”هنا، ما رأيكما في أن نمرّ لنشرب القهوه عنده؟ قلنا لا بأس، فكرة لطيفة.
استقبلنا الدكتور الكك بالترحاب، وجلسنا نشرب القهوة ونتحدث في ما يجري من مآسٍ في الوطن. وبعد حوالي الساعتين، شكرنا الدكتور الكك ووقفنا استعدادا للانصراف، وفجاه قال لي الدكتور فيكتور: “دكتور نبال، العام المقبل أريدك عندي حصرياً في كلية الآداب، سأعطيك كل الساعات المطلوبة وتترك كلية التربية”. وأضاف وأنا مندهش من هذه المفاجأة: “لقد كان عندي “تصور مغلوط”عنك. الآن عرفتك عن قرب”. حاولت أن افهم منه طبيعة هذا “التصور المغلوط”ومصدره، لكنه بالطبع لم يفصح عن شيء محدد، بل أفهمني أن معلومات كانت قد وصلته عن أنني… “يساري” …”
كنت أثناء الحديث قد أبديت رأيي كالعادة بصراحة ووضوح في كل ما طرح من قضايا خلال الجلسة. لم أكن لا يسارياً ولا يمينياً في ما قلت. أنا أقول ما أؤمن واقتنع به. هكذا كنت، وهكذا لا أزال. لا أخشى شيئاً، خصوصاً وأنني كنت في ذلك الوقت شابا متحمسا في الثامنة والعشرين من العمر وكنت قد توظّفت، فلا خوف عندي على شيء.
لا ادري ما الذي جعل الدكتور الكك “يعرفني عن قرب”ــــ كما قال ــــ من خلال حديثي ومداخلاتي، ويقرر ان يعطيني كل الساعات المطلوبة في القسم الذي يرأسه، مع انه لم يكن يملك أي ساعة يمنحني إياها منذ أشهر قليلة. فسبحان مغيّر الأحوال !
عدت إلى المنزل وأنا أفكر في هذه القضية، وبالحدس والاستقراء عرفت تقريباً المخبر الذي رسم “التصور المغلوط”المذكور الذي وصل إلى الدكتور فيكتور. انه واحد من طلاب الدكتوراه الذي كنا نلتقي به بشكل شبه يومي في بيت الطلبة اللبنانيين في باريس، وكان يدرس الاختصاص نفسه، وعاد إلى لبنان قبل عودتي بعام. وكنا جميعاً نشك في انه مخبر لما كان يسمّى في ذلك الوقت “المكتب الثاني” أي مخابرات الجيش اللبناني. سامحه الله.
على كل حال، طالت الجولات والمعارك، وأدركتُ بسرعة أن الحرب طويلة، فعدت الى فرنسا ووجدت على الفور عملاً في تدريس اللغة العربية بالوسائل السمعية البصرية مع جامعة “بواتييه” تلك المنطقة المعروفة جيداً في تاريخنا العربي بسبب المعركة الشهيرة التي جرت على أرضها وهي “معركة بواتييه” التي يسميها مؤرخونا “معركة بلاط الشهداء” والتي انهزم فيها العرب شر هزيمة بسبب الخلافات على الغنائم والنميمة، وذبح فيها ثلاثة آلاف جندي عربي على صخور كبيرة هناك في أرض المعركة، ولذلك سميت “بلاط الشهداء.”
وهكذا، شاءت الظروف أن أقوم بتأسيس قسم للغة العربية في الأرض التي سبق أن هُزِم فيها أجدادنا العرب وانتهى بعدها وجودهم على كامل الأراضي الفرنسية.
وعندما استُدعي الأساتذة لمعاودة التدريس في الجامعة اللبنانية بعد سنتين تقريبا وبعد دخول “قوات الردع العربية”، قدمت استقالتي ولم أعد لا إلى التربية ولا إلى الآداب، وبقيت في فرنسا ولا زلت حيث تحولت إلى الصحافة ـــــ حبي الأول ـــــ وأنهيت فيها حياتي المهنية.
فتأملوا في كل هذا وذاك!
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثنين