بقلم الدكتور نبال موسى
في الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، لم يكن المتخصصون في الترجمة الفورية في فرنسا من العربية إلى الفرنسية وبالعكس كثيرون مثلما أصبح الوضع الآن، ولذلك كان هناك مترجمان لقصر الإليزيه في هذا المجال هما في الواقع أستاذان في معهد الدراسات الشرقية، حيث تُدرّس اللغة العربية، أحدهما كان البروفسور جيرار تروبو، رحمه الله، وهو أستاذي الذي أشرف على أطروحتي وكانوا يسمونه “سيبويه فرنسا” ! والآخر كان البروفيسور جيرار لوكونت. كان أستاذي يتولى الترجمة للمسؤولين القادمين من الشرق الأوسط، والبروفيسور لوكونت يترجم لمسؤولي شمال إفريقيا.
كنا ستة طلاب نُعدّ أطروحاتنا مع البروفسور تروبو في بداية السبعينات، وكان طلب منا مساعدته في تحقيق كتاب مخطوط ومحفوظ في المكتبة الوطنية الفرنسية للطبيب والكيميائي والفيلسوف الرازي المعروف جداً في الغرب . والكتاب هو ” الخواصّ” الذي يعرض فيه الرازي خواصّ اللحوم والخضروات والنباتات والفواكه والأعشاب… وهكذا، كنا نجتمع صباح كل سبت في جامعة السوربون للعمل في تحقيق هذا الكتاب.
في الرابع عشر من أيار عام 1973 جاء الملك فيصل بن عبد العزيز، رحمه الله، في زيارة رسمية إلى فرنسا. وبطبيعة الحال، كان أستاذي مكلفاً بالترجمة الفورية بين جلالة الملك والرئيس جورج بومبيدو. يوم السبت الذي تلا زيارة الملك، كنت وصلت باكراً إلى القاعة التي نجتمع فيها لتحقيق الكتاب المذكور، ثم وصل البروفيسور تروبو، وما إن رآني حتى قال لي وهو يبتسم: لقد أنقذني الرازي من ورطة كبرى كانت ستحصل أمام الملك فيصل والرئيس بومبيدو. فقلت: كيف؟ ما الذي حصل؟ قال: في ختام الزيارة، أهدى الرئيس بومبيدو إلى الملك بندقية أثرية جميلة قائلاً له ممازحاً: “لا أدري يا جلالة الملك إن كنت ستتمكن من صيد ” الفيزون” بهذه البندقية القديمة…” الى آخر الخطاب. ولم أكن أعرف اسم هذا الطائر بالعربية لو لم نره في كتاب الرازي منذ أسبوع فقط، هل تتذكر عندما تطرّق لخواصّ لحم طائر “التدرج”؟ قلت نعم، يا للمصادفة! ثم أضاف: لكن الملك التفت إليّ وقال مستغرباً: لا أعرف هذا الطائر! هل أنت متأكد من اسمه؟ قلت: يا جلالة الملك، ربما تسمونه في بلادكم “الدرّج” أو الحجل. فقال: نعم، إن كان هو الحجل فأعرفه.
ثم قال لي أستاذي الطيب الذكر: لاحظت خلال هذه الزيارة أن الملك فيصل رجل فضولي بمعنى أنه يحب المعرفة والاطلاع، لا يفوته شيء لا يعرفه إلا ويسأل عنه. فأثناء الغداء الرسمي، كانت وجبة الغداء مترجمة كما جرت العادة على البطاقة الموضوعة على الطاولة أمام كل شخص. وكان من ضمن المقبلات طبق هو “الهليون” بالعربية، لكن الملك طلبني للتأكد من الاسم، فأكدت له أنه “الهليون” حسب القواميس. فقال إنه لم يعرفه من قبل أو أنه غير موجود في السعودية.
رحم الله هذا الأستاذ الطيب الذي كان بالنسبة لي أخاً أكثر من كونه أستاذاً. فقد اضطررت لدراسة بعض المخطوطات اللازمة لأطروحتي واستطعت جلب نسخ عنها من ألمانيا وأسبانيا والبرتغال. لكنه بعد حين طلب مني الحصول على مخطوطة موجودة في المتحف البريطاني في لندن. وبما أن المتحف لم يكن يعطي نسخاً مصوّرة في ذلك الوقت، طلب مني السفر إلى لندن ليومين أو ثلاثة لدراسة المخطوطة. لم أكن أملك الكثير من المال، فلاحظ أنني أبديت بعض التردد فقال لي: إذا كانت العقبة مالية فأنا أدفع ثمن البطاقة ومصاريف الإقامة وتردّ لي المبلغ عندما تنهي دراستك وتبدأ العمل في لبنان. لكنني رفضت، وتدبرت أمري وسافرت يومها أنا والصديق الدكتور نسيم الخوري الذي كان يعد أطروحته أيضاً في باريس، أنا للدراسة والتدقيق وهو… للسياحة.
رحم الله جيرار تروبو. هل يوجد هذا النوع من الرجال هذه الأيام؟
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثنين