التفتت السيدة العجوز إلى جارتها الفتية سائلة: ومتى سيخطب مندوب “حزب السفير”؟
كان ذلك في آذار العام 1976، في “المرحلة القومية” من محاربة اسرائيل. يوم كانت الأحزاب والقوى السياسية متعددة لكن ليس إلى حد السعي لمصادرة “الحق بالمقاومة” وادعاء وكالة باحتكارها، وإصدار براءات ذمة بالمساحات الديموغرافية، ومنحها إقطاعات منافع إلى التقاتل في الزواريب، الذي، إن وقع، تطوى صفحته، سريعا، تسليما بأن انتصار القضية الكبرى يكون بقهر المصالح الذاتية، والضيقة.
حدث ذلك في ساحة بلدة البابلية الجنوبية، ونقل تفاصيلها، يومها، موفد “السفير” لتغطية المناسبة، واستقبلها زملاؤه، في ردهات التحرير، بتفاوت. منهم من اعتبرها نكتة، ومنهم من فهم أن الناس يرون في هذه الجريدة الناشئة نهجا سياسياً قومياً نضالياً عنوانه الأوحد فلسطين، وبه يتظلل الجميع، ويجعلها فوق كل الأحزاب، وحتى في موقع قيادتها. كان صدورها اليومي، بالنسبة إلى قرائها، أقرب إلى تقرير سياسي يومي يوجه بوصلتهم لرؤية الأحداث. فبين أقلامها اليساري، “عموما” وهذا معناه أنه يساري غير حزبي، والقومي، العربي الناصري، والبعثي، بشقيه السوري والعراقي، والتروتسكي والستاليني، والماوي، وغير ذلك من التنويعات السياسية، يوم لم يكن من حُرْم على أحد، ولا “خنق” ديني مستفحل لأحد، ولا هجوم من بيئة حاضنة ما على مطعم “ملحد”، ولا عزل لاحياء عن غيرها بيافطات الدعوات السياسية الدينية، ورفع النصب التذكارية على طريق المطار، وصور أبطال الفرس محل أبطال القادسية، ورفع علمين لطهران في الجنازة، وتغييب العلم اللبناني.
في تلك الأيام،كانت بيروت محجة اليسار عموما، والهاربين من ظلم الأنظمة الديكتاتورية، عربا وأجانب.كانت بيروت عاصمة المعارضة “العالمية”. وماكان لبيان أن يصدر عن أي معارضة في العالم إن لم تقرأه بيروت أولا. كانت “النهار” قدوة في الضفة المواجهة، وكان السر غير المعلن هو كيف نجعل السفير ليبيرالية يسارية “ليّنة” مقابل ليبيرالية “النهار” اليمينية، حيث كل التغطيات متاحة ضمن نهج مرسوم لا يغيّب الحقيقة.
لم تكن “السفير” عدواً أعمى البصيرة، بل خصم صلب وكانت الإدارة، من رئيس التحرير، إلى نادل المقهى، ترحب بكل من يرغب، من الفريق الآخر، من موقع الخصم لا العدو، في العمل في الصحيفة، أو الكتابة فيها. فبرغم التقاتل ظلت القيم مقدرة، وظل للعيب معنى، وللأخلاق تقدير. حتى وسائل الإعلام التي اضطرتها الحاجة للاستمرار بالصدور إلى الاستعانة بـ”صديق”، لم تخضع لشروطه التي كان يمكن أن تسعر الحرب في البلد وعليه. ربما لأن هذه الأطراف لم تطرح أمر الشراء “والاستملاك” أصلاً، لأنها في الأساس لا تطبق استراتيجية إقليمية متدرجة هدفها تفتيت المنطقة من الداخل، بدءاً بالحس الديني، وانتهاء بالديموغرافيا، التي لا تماريها العين المجردة، اليومكأننا أمام قنبلة فراغية بشرية، والشهود كثر من اليمن إلى لبنان، والسودان.
لربما فضّل طلال سلمان أن يشهد موت “السفير” على يديه حين أشهر إقفالها مساء يوم شتوي، هو الرابع من كانون الثاني 2017 وأظهر واسرتها عجزهما عن منع سقوطها في سوق النخاسة السياسية المزدهرة حالياً، ففضل تغييبها.
بوفاة طلال سلمان سقطت مسلة فرعونية في مجد الصحافة اللبنانية، فهذه إذ يأتي أحد على ذكرها، تقفز أمام ناظريه أسماء صنعت مجدها، وأسست مدارس في المهنة من دون صفوف ومقاعد. لا أذكر أني ناديته إلا نادراً، بالأستاذ، وهي تسمية تستحق، ولا تمنح آلياً. وهو أبرز من استحقها، ولو اعترض. ومن مثله اليوم يعدون على الأصابع.
اختار أبو أحمد 4 كانون الثاني 2017، لإطفاء شمعة “السفير”، وأراد أن تكون افتتاحية العدد العشرين قبل 43 سنة، هي إفتتاحية العدد الأخير وفيها يشي كم أتعبته الحياة، وأن من حقه أن يلتقط أنفاسه “لنقول ببساطة وباختصار وبصدق: شكرًا”.
أبو أحمد،
ربما ارتحت اليوم، والتقطت أنفاسك، لكنك قطعت أنفاسنا. فربما نجد يوما سفيرا آخر، لكن من ين سنأتي بأبي أحمد آخر؟
راشد فايد