لندن – مريان نعمة
استنفرت السلطات البريطانية والأوروبية والمصارف المركزية العالمية لمواجهة انتقال عدوى المصارف من الولايات المتحدة ومصرف كريدي سويس اليهم .
وعلى الرغم من أن السلطات البريطانية سارعت إلى احتواء أزمة انهيار بنك “وادي السيليكون” في كاليفورنيا ببيع فرع البنك في بريطانيا لبنك كبير هو “إتش إس بي سي”، إلا أن أزمة بنك “كريدي سويس” أثارت القلق مجدداً. هذه المرة ليس في بريطانيا فقط، إنما في كل أوروبا خشية انتقال عدوى انهيارات البنوك عبر الأطلسي، مما يهدد النظام المالي العالمي كله وينذر بأزمة مالية عالمية حتى لو كانت مختلفة عن السابقة في 2008.
فقد تحركت البنوك المركزية على المستوى العالمي للحفاظ على تدفق الائتمان بعد فترة عدم استقرار في القطاع المصرفي الأميركي وعملية دمج بنك كريدي سويس.
اذ أعلنت ستة بنوك مركزية، من بينها بنك إنكلترا، أنها ستعمل على تعزيز تدفق الدولار الأميركي عبر النظام المالي العالمي.
وكان بنك “يو بي أس” قد استحوذ الأحد على بنك كريدي سويس الذي يعاني من مشاكل مالية في صفقة مدعومة من الحكومة السويسرية.
ودخل الترتيب الخاص بالسيولة المالية من الدولار الأميركي الذي أطلق عليه اسم “خط المبادلة” حيز التنفيذ اعتباراً منمطلع الاسبوع.
وفي بيان مشترك، أطلق بنك إنكلترا وبنك اليابان وبنك كندا والبنك المركزي الأوروبي وبنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي وبنك سويسرا الوطني خطة عمل منسقة لـ “تعزيز توفر السيولة”.
ويراقب البريطانيون، من وزارة الخزانة إلى بنك إنكلترا (المركزي البريطاني) مروراً بسلطات الرقابة والتدقيق المالي في حي المال والأعمال (سيتي أوف لندن)، الوضع بقلق بالغ. وعلى رغم التطمينات السويسرية في شأن أزمة ثاني أكبر بنك في البلاد ودمجه مع بنك “يو بي إس”، فالقلق أصبح يطغى على القارة الأوروبية كلها. بعد إعلان قرار البنك المركزي الأوروبي رفع سعر الفائدة بنصف نقطة مئوية (من 2.5 في المئة إلى ثلاثة في المئة) لدول منطقة اليورو قالت رئيسة البنك كريستين لاغارد إنهم يراقبون تطورات أزمة البنوك. وبدا ذلك تطميناً للأسواق بأن السلطات النقدية والمالية الرسمية مستعدة للتدخل السريع لمواجهة أي أزمة بما يحول دون انتشارها في النظام كله.
وإذا كان انهيار البنوك أمر شائع في الولايات المتحدة، بخاصة الصغيرة والمتوسطة، فهو أمر نادر في أوروبا. والتداعيات على بريطانيا وأوروبا ستكون هائلة وربما تكشف عن أن كل التطمينات الحالية ليست كافية لمنع انهيار النظام كله في أزمة مالية عالمية.
فقد ذكر إد كونواي في مقالة له في صحيفة “ذا صنداي تايمز” أن مشكلة أوروبا ستكون أكبر مع ما يسمى “الوازع الأخلاقي” وهو التزام الحكومة حماية صغار المودعين في
حال انهيار بنك من دون استخدام أموال دافعي الضرائب في تعويض كبار المستثمرين وأصحاب الثروات الكبيرة.
فحتى الأزمات المالية العالمية، كان الضمان الحكومي لودائع البنوك مقصور على 2000 جنيه استرليني (2435 دولاراً) فقط، وضمان بنسبة 90 في المئة على 35 ألف جنيه استرليني (42 ألف دولار) التالية. وزادت السلطات البريطانية حد ضمان الودائع في البنوك بعد الأزمة إلى 85 ألف جنيه استرليني (103 آلاف دولار) وإن كان ذلك يظل أقل من نصف سقف التأمين على الودائع في البنوك الأميركية الذي يصل إلى 250 ألف دولار.
ومع قرار السلطات الأميركية توسيع مظلة التأمين لتشمل كل الودائع في بنك “وادي السيليكون” لم يعبأ الأميركيون بهذا الوازع الأخلاقي الذي يمكن أن يكون مشكلة للأوروبيين كما يقول كونواي.
لا يقتصر اختلاف الوضع بين الولايات المتحدة وأوروبا على مشكلة حماية المودعين الصغار أو الصغار والكبار معاً متجاوزين الوازع الأخلاقي، بل إن من يروجون لأن “أوروبا غير” يستندون إلى حقيقة أن البنوك المنهارة في الولايات المتحدة حتى الآن كانت تخدم عملاء لهم طابع خاص وليس جمهور الناس من مودعي التجزئة في البنوك العادية. فمثلاً بنك “وادي السيليكون” كانت شركات التكنولوجيا الناشئة في كاليفورنيا والمستثمرين المغامرين فيها من عملائه، وقاعدة بنك “سيغنيتشر” هي أيضاً الشركات الناشئة في نيويورك، وبنك “سيلفر غيت” كان المقرض الرئيس لشركات العملات المشفرة.
أما البنوك في أوروبا، فمعظمها تعتمد على مودعي التجزئة والمواطنين العاديين وشركات التجارة وغيرها. مع ذلك يشير كونواي في مقالته إلى أن المواطنين العاديين في بريطانيا مثلاً لم يعرفوا أن هناك عشرات الآلاف منهم ودائعهم موجودة لدى بنك “وادي السيليكون” المنهار، ذلك لأنه كما وصف محافظ بنك إنكلترا السابق مرفين كينغ فإن البنوك لا تحتفظ إلا بنسبة بسيطة من أموال المودعين وتستخدم البقية في إقراض الشركات والأعمال لتحقيق عائدات وأرباح. ومع أن ذلك هو عصب نشاط الاقتصاد الرأسمالي، إلا أنه يمثل أزمة إذا هرع الأفراد لاسترداد أموالهم، فتحدث أزمة سيولة خانقة وانهيارات ، بالتالي يمكن خلال الايام المقبلة ، إذا استمرت مشكلات قطاع المصارف وزاد فقدان الثقة بالبنوك أن يكتشف البريطانيون مثلاً أن أموالهم التي يدخرونها في برنامج الادخار المعفي من الضراب (ISA) ليست موجودة في بنوكهم، بخاصة إذا كان العميل يدخر أكثر من 85 ألف جنيه استرليني (103 آلاف دولار).
تشير معظم المقارنات بين الوضع الحالي والأزمة المالية العالمية في 2008 إلى أن الأمور تغيرت وأن الوضع العام، سواء لقطاع المصارف أو الاقتصاد بشكل عام، أفضل، إلا أن ميغان غرين تقول في مقالة لها في العدد الأسبوعي من صحيفة “فايننشال تايمز” إنه من الصعب الآن الحكم على مدى صحة تلك الفوارق التي تطمئن الأسواق. فعلى سبيل المثال، يشير المتفائلون إلى الإجراءات المشددة والإصلاحات التي أدخلتها السلطات المالية والنقدية منذ الأزمة المالية العالمية السابقة. لكن تلك التغييرات لم تختبر في أزمة بعد، وليس هناك ما يضمن أن تطبيقها سيكون بالفاعلية والكفاءة لمنع أزمة جديدة.
وتشكك غرين في أن التدخل السريع من قبل السلطات، على عكس ما حدث في 2008، قد لا يكون مختلفاً كثيراً عن المرة السابقة. فالحديث عن أن ليس هناك إنقاذ من أموال الخزانة
ودافعي الضرائب ليس دقيقاً تماماً، بل إن توسيع ملاءة التأمين لتشمل كل الودائع أي ضمان أموال كل المودعين هو شكل من أشكال الإنقاذ الحكومي بمسمى آخر فقط.
أما الحديث عن أن الأزمة الحالية تعود في الأساس لخسائر البنوك غير المحققة بسبب هبوط قيمة حيازتها من السندات نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة، وليست بسبب انهيار سوق الرهن العقاري والسندات والمشتقات المرتبطة به كما في 2008، فإن القطاع العقاري الآن في وضع حرج جداً ويمكن أن يشهد هبوطاً حاداً إذا دخل العالم في حال تشديد ائتماني قاس.
وإذا كانت الأسواق حتى الآن تقبل بتلك التطمينات، فإن الأيام المقبلة ربما تشهد فقدان الثقة بقطاع المصارف بشكل عام بما يؤدي إلى انهيارات خارجة عن السيطرة ويدخل النظام المالي العالمي في أزمة جديدة.