يسعدُنا، نحن اللبنانيّين، أن نستقبلَكم في وطنٍ يعاني، لكنّنا، مع ذلك، لم نتقشّفْ في حُبّه، وما كان لنا خلوةٌ إلّا معه. لقد سيقَ وطنُنا الى المقدورِ قَهرًا، ولم يُنصَفْ، وظالِموه كُثُر، فعسى أن تكون زيارتُكم كشُغلَةِ المجوس، تُعلِنُ عن تجسيدِ أملِ الناس، عندَنا، وطنًا للنّقاء والحقّ.
عذرًا، يا صاحبَ القداسة الحبيب، إذ بدأتُ خطابي بتوصيفٍ يتطرّقُ الى صُلبِ مقامٍ مطرَّزٍ بالأسى، بديلًا من استقبالكم بشادي الألحان. فمقدّمتي ترجمانٌ لليلٍ دامسٍ حوَّلَ وطني من أرزةٍ خصيبة الى غصنٍ غَدَرَهُ الذّبول.
يا سيّدي،
نحن نعلمُ أنّ حُلوَ الإيمانكان الجوهرةَ النقيّةَ في قلبِكم الذّائب بالله.لقد آمنتم بأنّه الجوهرُ اللّامتناهي الخير، والكاملُ الذي لا نهايةَ لكماله، وغيرُ المتحوّلِ كما جاءَ في صلاةِ القديس أوغسطينوس الذي ناجى ربَّه بقَوله : ” أنتَ، وحدَك، الموجودُ بلا تَغَيّر، والمُريدُ بلا تَغَيّر “. من هنا، نسجتم مواقفَ تنتمي الى وزناتِ اللّاهوت، لم تكن سطحًا بغير عمق، فاستوى فيها الفَرقُ بين الصّوتِ المُستَساغِ وبعض الضّجيج الذي كان من قبل.
نحن نعلمُ أنّكم المفتونون بالرّوح الحيّ، أو الكينونةِ الخالدةِ للإنسان، أيِّ إنسان، في أيِّ مطرحٍ كان.وقد باشرتُم بتأسيس قوالبَ أضاءَت على أفقِكم الفكري، في بُعدَيه الرّوحي والإنساني، فأضفتم القدرةَ على رفعِ الحجابِ عن الحقيقة، في مسافاتٍ جديدة تبشّرُ بأنّ هناك، دائمًا، تِرياقًا لِسُمِّ الأيام، بالرَّغم من ظلامِ الوقت. وفي هذا المجال، كنّا متأكّدين من أنّكم لم تكونوا في غربةٍ عن لبنان، وبذلك، إنّ أَجرَكم، معنا، عظيم.
نحن نعلمُ، من عظاتِكم، أنّ كلماتكم كالثّمار، لا تحتملُ شكًّا، فهي وعودٌ طاهرةٌ تعيدُ صياغةَ مفاهيمِ العلاقةِ بين المواطن والوطن، حتى لا يكون الولاءُ شريدًا، وعنوانًا بلا مضمون. من هنا، وعلى عكس ما طالعَتنا به جهالةُ أكثرِ القيّمين على مصير بلادنا، كانت البشارةُ، لنا،إدراكُ كم بأنّ الكيانَ الوطنيَّ بِخَطر، وأنّ العودةَ الى تمتين الرّابطِ مع قاموس الولاء، يُخرجُ الوطنَ من أزمتِه. وهذا يعني أنّكم تؤكّدون على أنّ القضية اللبنانية هي جزءٌ مركزيّ في أوّلياتِ اهتمامِكم، وما زيارتُكم المقدّسة إلّا الرافعة لتأهيل مشروع قيام الدولة القادرة، والواحدة، والمستقلّة، والذي ينبغي الأخذُ به حلًّا يُنهي التّعطيل المودي الى مزيدٍ من الظلام. وذلك، وحدَه، كفيلٌبإخراج البلاد من عنقِ جهنّم.
نحن نعلم أنّكم لستم من صُنّاع السياسة، بل من صُنّاع الخيرِ والحقّ والقِيَم التي يُنصَرُ بها، لأنّها توسمُ مواقفَكم بالمصداقيّة، هذه التي قُلتُم إنّها نعمةٌ يُضفيها الله على البشر، فمَنْ ينتفعْ بها يَنَلِ الحظوةَ في الدّنيا والآخرة. إنّ كلَّ ما نطقتم به، في عظاتِكم، وما سوف تنطقون به، عندَنا، بتجرّدٍ، وبمحبّة، خاصةً في كيانيّة الإنسان، لم تكن، ولن تكون إلّا إشراقًا لاهوتيًّا استَضَأتم، له، بإرثِ الباباواتِ القدّيسين الذين يعود اهتمامهم بالإنسان الى ما هَرمَ من العصور، وكذلك الى مُعطى تَدَخّل الرّوحِ القُدُس الذي تنطقون بلسانِه، لتنصحوا، وتُرشدوا، وتساعدوا، وتعزّزوا مواكبةَ الإنسانِ لقضايا الحقّ، والعدل، انتقالًا من واقعِ الوحلِ الى الهواء النّظيف.
إنّنا نطلبُ منكم أن تكثِّفوا محادثاتِكم مع أركانِ القرار العالمي، لنصرةِ المسألة اللبنانية، فإنّ محادثاتِكملن تكونَ خطىً في الفراغ.إنّ وطنَنا يخطو، بسرعة، صوبَ المنحى الانحداريّ، على مستوياتِ السياسة، والكيانيّة، والمصير، والبقاءِ في أوضاع مُذِلّة قاهرة.لذلك، نرجو من قداستِكم، أن تؤدّوا دورًا رياديًّا في توجيهِ انتباهِ رؤساءِ الدّولِ القادرة، الى أنّ من واجبِهم الأخلاقيّ، والإنسانيّ، العملَ سريعًا، لتبديد هاجسِ اللبنانيّين بزوالِ بلدِهم، كما عرفوه وعاشوا فيه، فهؤلاءِ ينتظرون جوازَ مرورٍ الى الطمأنينةِ، والسّلام، والعيشِ الكريم، في دولةٍ سيّدة، ويحقُّ لهم بذلك.
إنّ الفرقَ بين وجودِكم، بينَنا، ووجودِ مُدَّعي الاهتمام بقضيّتنا، زورًا، هو كالفَرقِ بين النّورِ والعَتم، وبين مَنْ يسعى لانتشالِ جباهِنا من غَمسِ الطّين، ومَنْ يدفعُنا للمَشيِ على الشَّوكِ لننزفَ، وهم متوكِّلون على مقولة ” التّرويع للتَّطويع “. لذلك، نطلبُ منكم، يا سيّدنا المُحِبّ، أن تمتشقوا صليبَكم الخَشَب، وبنبرةٍ صارمة، لكنّها عادلة، لتُضرموا في نفوسِ القادرين اندفاعًا لنجدةِ لبنان، بأيدٍ تمنحُ الحياة، وتُنَجّي مِمّا يُحَضَّر له من زَجٍّ في أتونِ الموت.
قداسة البابا العظيم،
لطالما كان الفاتيكان، مع الباباوات الأتقياء، قنصلًا للبنان بدونِ مرسوم، أحدثَت دفوعاتُهم ودعواتُهم رجّاتٍ كان من الخطأِ إِهمالُها، وكانت تستوجبُ دراسةً خاصة، فأيُّ كلمةٍ لم تكن من الشّهود ؟ إنّ مواقف الباباوات المتعاقِبين على الحَبريّة، كانت، دائمًا، انتسابًا وجدانيًّا لكرامة الإنسان، واحتجاجًا مدوِّيًا على المساسِ بحقِّه في حياةٍ لائقة، فلايُعمَلُ على اتّخاذِه رهينةً لحاجاتٍ ينبغي أن يكونَ وصولُه إليها تلقائيًّا ومُستَسهَلًا. ولمّا كان باستطاعةِ بابا الفاتيكان أن يقلبَ المقاييس، لصالِحِ الحريّةِ، ببناءِ تشكيلاتٍ دوليّة تعملُ علىنُهوضِ مشروع تَحرّرِ الإنسان من الخضوعِ، لذلك، نرجو، من خلالكم، أن يتفهَّم أولياءُ أمرِ العالَم، شَوقَ الإنسان في لبنان الى الكرامةِ الحُرّة، ليتشكّلَ قوامُ الكيان السياسي، والاجتماعي، الضّامنُ حقوقَ الجميعِ، والمُستَقِلّ بقرارِه، والمُسَمّى دولة.
صاحبَ القداسة،
إنّ الحُكمَ بإعدام لبنانَ لن تُرَجَّحَ كفّتُه، طالما أنّكم متمسِّكون بالدّفاع عن وجودِه، وقضيّتِه، وتَوقِه الى السيادةِالنّابضةِ بالحريّة، والمتمسِّكةِ بإكسير الحياة. وإذا كان موسى، في العهدِ القديم، قد استطاعَ شَقَّ المياهِ يَباسًا موصِلًا الى أرضِ الميعاد، فأنتم، أيّها البابا ليون، وحدَكم، في العهدِ الحديث، تستطيعون إدخالَ بَلسَمِ الشّفاءِ الى رِئَتَي لبنان، وتنقيتِهِ من الوباءِ الخبيثِ، ولن يكون ذلك، أبدًا، بالبكاءِ المُبَطَّن، فالبكاءُ للضّعفاء، وأنتم، يا صاحب القداسة، من الجبابرة.




























































