عقد في المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، بدعوة من رئيسه السيد شارل عربيد، لقاء حواري تشاركي مع حاكم مصرف لبنان كريم سعيد، شارك فيه رئيس لجنة الاقتصاد النيابية النائب فريد البستاني، رئيس لجنة الشؤون الخارجية النائب فادي علامة، النواب: وضاح الصادق، مارك ضو وفيصل الصايغ، رئيس الهيئات الاقتصادية الوزير السابق محمد شقير، رئيس الاتحاد العمالي العام الدكتور بشارة الأسمر، المدير العام للمجلس الاقتصادي الدكتور محمد سيف الدين، وعدد من أعضاء المجلس، وعدد من ممثلي القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، الهيئات النقابية، والمجتمع المدني، إلى جانب نخبة من الخبراء والاقتصاديين ورجال الأعمال.
استهل عربيد اللقاء، بكلمة قال فيها: «في سياق هذه اللحظة المصيرية التي يعيشها لبنان، نأمل أن نكون أمام انتقال بين مرحلتين: الأولى مشوبة بعدم الاستقرار والانحدار الدراماتيكي في مؤشرات صحة الدولة، وهي المرحلة التي انطلقت مع الانهيار المالي والاقتصادي وتداعياته. أما الثانية، فهي ما نصبو إليه من استقرار سياسي، اقتصادي ومالي، تعملون – ومعكم الطاقات الوطنية المخلصة – على تحقيقه بجدية والتزام». وأضاف: «بات واضحا، أن السياسات النقدية والمالية لم تعد مجرد أدوات تقنية لضبط التضخم أو تحفيز النمو، بل أصبحت الرافعة الأساسية لتوجيه الاقتصاد نحو خيارات أكثر عدالة واستدامة. فهي تشكل الإطار الذي تبنى عليه إمكانات السياسة الاقتصادية الكلية، وتمثل في الوقت ذاته ركيزة لسياسة اجتماعية فاعلة، تحمي الفئات الهشة وتعيد توزيع الثروة بعدالة». وتابع: «يتعامل المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي مع هذه السياسات كقضية وطنية تتجاوز النطاق التقني للخبراء، لتطال صميم اهتمامه كمؤسسة جامعة تعبر عن مختلف المكونات الاقتصادية والاجتماعية». وأكد عربيد «أن المجلس، بتعدديته القطاعية، يرى في السياسات النقدية والمالية أعمدة لتماسك المجتمع وكرامة اقتصادية، لذلك يوليها أولوية في مشاوراته وتوصياته ومساهماته في رسم السياسات العامة، إيمانا منه بأن نجاح هذه السياسات هو المدخل الأول لاستعادة العقد الاجتماعي وبناء الثقة بين الدولة ومواطنيها». واستطرد عربيد: «نؤمن بأن السياسة النقدية لا تنفصل عن الواقع الاجتماعي، وأن كل قرار في السياسة المالية يجب أن يقاس بوقعه على الصحة والتعليم والعمل والعدالة، لا فقط بعجز الموازنة. ومن هنا، يواصل المجلس نضاله الفكري وحواره المؤسساتي من أجل بناء سياسات لا تحل الأزمات فحسب، بل تصنع التوازن وتفتح نوافذ الأمل».
وتطرق عربيد الى قضية الودائع، وقال: «تشكل قضية الودائع التعبير الأوضح عن الانكسار العميق في صورة السياسة العامة والدور الحامي للدولة، فهي ليست أرقاما جامدة، بل تعب أعمار وثقة مهدورة واستعادتها في إطار خطة عادلة وواضحة يجب أن تكون أولوية وطنية لا بند ثانويا. فلا تعاف ممكنا من دون إصلاح حقيقي للقطاع المصرفي يعيد العلاقة بين المصارف والمودعين إلى أساسها الأخلاقي والقانوني، ويضع حدا لمنطق الإفلات من المحاسبة». وأشار إلى «أن اللحظة الراهنة لحظة مفصلية في التاريخ المالي اللبناني، تتقاطع فيها ضرورات الإصلاح البنيوي مع استحقاقات استعادة الثقة، ما يفرض مراجعة جذرية للمقاربات المعتمدة». وتساءل عربيد: «هل هناك نية لدى السلطة النقدية، بالتعاون مع القطاع المصرفي، لإجراء مراجعة منهجية لميزانيات المصارف وإزالة مفاعيل الهندسات المالية السابقة؟ وهل نملك تصورا أوليا يبين الأثر المحتمل لهذه المراجعة على النظام المصرفي ككل؟». وشدد على ضرورة التفكير في دور الدولة في هذه المعادلة، سائلا: «هل يفترض أن يلعب المال العام دورا مشروطا وهادفا لتأمين توازن مستقر في القطاع المصرفي، عبر مساهمات موقتة ومراقبة في رؤوس أموال المصارف الناتجة عن الاندماج أو إعادة الهيكلة، في إطار مؤسسي شفاف كإنشاء صندوق وطني للاستثمار في الاستقرار – Public Equity Fund for Stabilization – يمنع تضارب المصالح بين المصرف المركزي والمصارف؟». وفي ما يخص المساءلة، أكد عربيد «لا يجوز أن نغفل أهمية التحقيق القضائي وربما الجنائي في جذور الأزمة المصرفية، لا بدافع الانتقام، بل سعيا إلى بناء الثقة من خلال الحقيقة والمحاسبة». ووجه عربيد حديثه إلى الحاكم: «لقد استقبل تعيينكم بكثير من الأمل، خصوصا بعد إعلانكم بيان التفويض – Mandate Statement – الذي افتقدناه طويلا. لكن يبقى السؤال الأهم: هل ستكون المصارف شريكا مسؤولا وشجاعا في بناء نظام مصرفيٍ جديد، يقوم على الشفافية والتوازن والمسؤولية الاجتماعية؟». وختم عربيد: «إنها لحظة اختبار أخلاقي للدولة ومؤسساتها، والثقة تبنى لا تمنح. ونحن معكم، يوما بيوم، عند كل استحقاق، لنكمل المسار نحو النهوض، بالكفاءة والنزاهة، من الانحدار إلى النمو كما يليق بلبنان».
ثم تحدث الحاكم سعيد، فقال: «في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ لبنان الاقتصادي، أرى من الضروري إقامة فعل مشترك بين مصرف لبنان والجمهور حول أربعة محاور أساسية: دور مصرف لبنان، طبيعة الأزمة النظامية، مقاربة المصرف لها، والطريق إلى الأمام». وأوضح أنه قال لرئيس الجمهورية في أول لقاء جمعهما:»أنا لا أملك خطة جاهزة، بل أهداف واضحة: إعادة هيكلة القطاع المصرفي على أسس صلبة من حيث الرسملة والحوكمة، تسديد الودائع كاملة إذا أمكن وعلى مراحل إذا لزم، والمساهمة في التعافي الاقتصادي». ثم فصل سعيد حديثه، قائلا: «المادة 13 من قانون النقد والتسليف تعرف مصرف لبنان ككيان عام مستقل ماليا، يخضع في علاقاته مع الغير للقواعد التجارية. أما المادتان 70 و72 فتحددان مهام المصرف، وأهمها الحفاظ على استقرار النقد والأسعار وسلامة القطاع المصرفي، والتعاون الوثيق مع الحكومة.» وتابع: «من المواد 81 إلى 92 يتضح أن إقراض الدولة هو خيار استثنائي ومحدود، والمصرف لا يفترض أن يكون ممولا دائما لها، بل حارسا للاستقرار النقدي والمصرفي، ضمن هامش من الاستقلالية». وفي توصيفه للأزمة، قال سعيد: «الأزمة التي نواجهها نظامية – Systemic – كما جاء في بيان صندوق النقد الدولي في آذار 2021. المؤسسات الرسمية فقدت صدقيتها، القطاع المصرفي مفلس، سعر الصرف انهار، والتضخم بلغ مستويات غير مسبوقة. إنها أزمة مكتملة الأركان». أضاف: «عندما تكون الأزمة نظامية، يجوز للدولة أن تصدر قوانين استثنائية تعيد النظر في عمليات ومعاملات كانت قانونية في وقتها، بشرط أن تكون هذه القوانين موقتة، نسبية، وتصب في المصلحة العامة». ثم تطرق إلى مقاربة مصرف لبنان، وقال: «الأولوية إعادة التوازن إلى ميزانية المصرف. إذا بقي العجز، يمكن للمصارف التجارية مقاضاة المصرف المركزي للمطالبة ببيع أصوله، أو قد يطلب من الدولة تغطية العجز وفق المادة 113، وهذا ما نسعى لتفاديه». وأكد أنه «بمجرد إعادة التوازن، تصبح الالتزامات – أي الودائع – أكثر واقعية، ويجب تقسيمها إلى شطور: صغيرة (حتى 100 ألف دولار)، متوسطة (100 ألف – مليون) وكبيرة (فوق المليون)، مع أولوية تسديد الصغرى. أما بشأن المصارف، فدعا سعيد إلى «إعادة رسملة، اندماجات، وتحمل المسؤولية. ومن تعجز حتى بعد الاندماج، ستخضع لإعادة هيكلة داخلية، يحول فيها المودعون الكبار إلى مساهمين».