لقد اعتبرَ بعضُ المتطرِّفينَ أنّ الموسيقى هي عَطِيّةٌ غيرُ مُستَحَقَّةٍ أُضيفَت على الحياة. لكن، وبالرَّغمِ من تَمَنّي الكثيرين الصَّمَم، قُبالةَ مِمَّن لم يكونوا، في سِجِلِّ الموسيقى، إلّا مرتزَقَةً حَجَرِيّين، وبالرّغمِ من تَبَنّي الإِلحادِ، لو كانتِ الموسيقى إلهًا، تُجاهَ بِدَعِ الهراطقةِ في الأَداء، لا بُدَّ من الإِقرارِ بأنّ عِشرةً حميمةً نشأَت بين الأنغامِ وبين رَشِقي الموهبة، وزياد الرّحباني منهم، هؤلاءِ الذين آخَت مَوجاتُ الموسيقى فيهم الحَواس، وبدونِ وساطة، فتبوَّأوا صدارةَ صُنوفِها، واكتملَت، معهم، مَحاسنُها، فكأنَّهم، برِيادتِهم، آتونَ من هياكلَ حيثُ البَخّورُ تَلحين.
لقد بدأَ زياد الرّحباني يبحثُ عن ذاتِهِ الموسيقيّةِ، وعن معنى موهبتِهِ الفنيّة، وعن ارتباطِهِ باللَّحنِ البَحت، منذُ أن تَشَكَّلَ وَعْيُه. ويَشهدُ على ذلك، المضمونُ الفنّيُ الذي ظلَّ محورَ اهتمامِهِ، قبلَ أيِّ مضمونٍ آخر، حتى آخر رَمَق. ربّما عرفَ زياد، في داخِلِهِ، وهو بَعدُ في الرَّحِم، أنّ حياةَ الموسيقى هي الحياةُ التي دُعِيَ إليها…
قيلَ إنّ جرأةَ الموقفِ عندَ زياد الرّحباني تَمَظهَرَت جرأَةً في إِتقانِ الأَلحان، لكنّ موهبتَهُ لم توجَدْ لتُلَحِّن، بل ” لِتَفَعَلَ ” في الموسيقى، أي مَنْحها أن تكونَ طليقةً، حرَّةً، مُجَدَّدَةً، فأَسوَأُ الضَّلالِ قَمعُ الموسيقى في جهالاتِ التّقليد. لذلك، وإِنْ تَخَرَّجَ زياد على أُصولِ الفنِّ الموسيقيّ، بقواعدِهِ، وشروطِهِ، وقوالبِهِ، وهذا مَسرى الدّارسين، غيرَ انّه أَحدثَ خَرقًا، أو انفلاتًا، لكنّه انفلاتٌ فيهِ من الإِجادةِ، والتَّجديد، والمهارة، والذَّوق، ما جعلَه ينمازُ عن أكثرِ المُنقَلبين على الأُصول، والذين اقترفوا العشوائيّةَ السيّئةَ التي أَوقعَتهم في مُنزَلَقاتٍ فَضَحَتهم.
لقد استقلَّ زياد مَتْنَ الموسيقى، فوفّى النَّغَماتِ حقَّها في التَّفاعُلِ، والتَدَرّجِ، والانصهارِ في وحدةٍ مُتراصَّة، رشيقة، ووفّى الإحساسَ السَّلِس الذي يتَنَقَّلُ بين أجزاءِ الجُمَلِ، يَخلقُ جَوًّا من التَّعاضدِ بين مقاماتِ اللَّحنِ، وتأثيرِها المُتَسَلِّلِ الى الأَذواق، ما يُبرِزُ جماليّةَ اللَّحنِ المُؤَدّى، ويضعُ السّامعَ في حالةِ تَذَوُّقٍ مُفرَطَةٍ بالإعجابِ والتَّجاوُب. ولعلَّ ذلك عائدٌ الى ما يُسَمّى بالتَوَحُّدِ بين المُلَحِّنِ ولَحنِهِ، أو بالصِّدقِ الفنّي الذي لا يُنتِجُ إلّا إِبداعًا.
في تشكيلاتِ زياد التَّلحينيّةِ محطّاتٌ تنتقلُ من وزنٍ الى وزن، ومن إيقاعٍ الى آخر، يُحدِّدُ زياد خيوطَها، ويُشرِكُ مزاجَه في أشكالِها، لتخرجَ لوحةً ساحرةً تَنطقُ إعجازًا. إنّ الطَّوافَ في صندوقةِ زياد الموسيقيّة، يكشفُ رسالتَهُ الحقيقيّةَ، فبِقَدْرِ ما كان مؤلِّفًا يملكُ في الإبداعِ ما يَملك، بِقَدرِ ما كان باحثًا مُفعَمًا بالاندفاعِ لكلِّ جديد، لتزدهرَ، معه، حركةٌ تجديديةٌ استثمرَت سُلَّمَ الآلاتِ والأصوات، وجعلَت مقطوعاتِه تهيمُ في جوٍّ تخييليٍّ يجعلُ الأُذُنَ تغارُ من العين.
لقد أنكرَ البعضُ على زياد نتائجَ خواطرِهِ في الموسيقى، واعتبروا أنّ ما يأتيهِ هذا “الثّوريُّ الأَهوَج “، فيهِ من الخطرِ على سِياقِ الموسيقى، أكثرُ مِمّا فيهِ من الابتكارِ المُجدي. فمذهبُ زياد، بحَسبِ هذا البعض، خارجٌ على المألوف، يستوطنُ الغرابةَ، ويرتدي ثوبًا من الهَوَسِ الذي يجعلُ الموسيقى تَلوي عُنُقَها انزعاجًا، وإحباطًا، وقلقًا، وكأنّها صادرةٌ عن واحدٍ بَلَغَ في الشُّربِ حدَّ الامتلاء، فهو سكرانُ طافِح. لكنّ هذا البعضَ، بالرَّغمِ من تَمَّتُعِهِ، ديمقراطيًّا، بحريّةِ التَّعبيرِ عن رأيِه، لم ينتبِهْ الى البُعدِ التَّجاوزيِّ في موسيقى زياد، والذي أحدثَ نهضةً مرموقةً، وقد تركَ هذا البُعدُ في جَعبةِ الموسيقى مجموعاتٍ قالَتها ” كورالات ” وأوركيستراتٌ فوقَ مسارحِ بلادِ النّاس، ولمّا تَزَل.
لم يعتبرْ زياد الرّحباني مسرحَهُ شكلًا مُكَبَّلًا من أشكالِ المَسرَحَةِ بالمفهومِ التّقليديّ، فهو لم يَرضَ أن يكونَ مسرحُهُ مجرَّدَ علامةٍ يمكنُ حصرُها في تعريف. إنّ مسرحَه صورةٌ جوهرُها إبداعٌ، وحريّةٌ، ومعرفةٌ، وموقفٌ، وجرأة. فعندما تتجابهُ الأفكارُ في نَصِّه، وتتجاذبُ المواقفُ أو تتنافر، وتسعى الى أن يحيا بعضُها ببعضِها الآخر، يبرزُ الاختبارُ الحقيقيُّ بابتكارٍ ذكيٍّ جاذِب، فيه من الديناميّةِ، وتَكييفِ المَشاهدِ مع الواقع، ما يُحدِثُ دهشةً وصدًى. إنّ المَشاهدَ، معه، من لحمٍ ودَم، أو هي العنصرُ الفاعلُ الذي يُحدِثُ خَضَّةً، ودَويًّا فيهِ شَفراتُ حِراب، فسَقفُ المسرحِ المُسَطَّحُ تَحَوَّلَ، مع زياد، مُقَبَّبًا بالعِبرةِ، والصّرخة، والحكمة، والثورة، وحميميّةِ الواقعيّة، والطَّبائع، ما جعلَه يدخلُ في دائرةِ عِلمِ الاجتماعِ الواقعي.
زياد الرّحباني الذي نِتاجُهُ لهيبُ العبقريّة، أَثبَتَ أنّ نَسْلَ فيروز وعاصي لا يَبور، وإِنْ مات.