تحت رعاية رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية القطري معالي الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني، أقيمت أعمال المؤتمر الدولي الثاني حول الحرية الدينية وصنع السلام، الذي نظمه مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان، بالتعاون مع شبكة جيران متعددي الأديان، على مدى ثلاثة أيام من 18 الى 20 فبراير الماضي، وذلك تحت شعار “من الحرية الدينية إلى المسؤولية الدينية: بناء السلام في عالم متصارع”، بحضور نخبة من العلماء الدينيين، والأكاديميين، وصناع القرار، وقادة الأديان من مختلف أنحاء العالم.
وكان للأب البروفسور جورج حبيقة الرئيس الفخري لجامعة الروح القدس الكسليك ـ لبنان كلمة خلال المؤتمر جاء فيها:
معالي الشيخ محمّد بن عبد الرحمن آل ثاني،
رئيسَ مجلسِ الوزراء وزيرَ الخارجيّة،
سعادةَ الأستاذ الدكتور إبراهيم بن صالح النعيمي،
رئيسَ مجلسِالإدارة في مركز الدوحة الدوليّ لحوار الأديان،
حضرة الأستاذ حبيب افرام، رئيسَ الجلسةِ الثانية،
زملائي معالي الوزير والدكاترة الأعزاء،
أيّها الحفل الكريم،
دعوني في مستهلِّ كلامي أتوجَّهُ بأسمى آياتِ الشّكرِ والامتنان إلى دولة قطر الشقيقةِوالعزيزة على هذه الدعوة الكريمة للمشاركةِ في هذا المنتدى الدَوليّ الرفيع، لمقاربةِ موضوعٍ على درجةٍ عاليةٍ من الأهمّيّة الوجوديّة.
إنّ المعضلةَ الأساسيّة َالّتي تواجهُ الإنسانيّةَ في أيّامنا الحاضرة ليست بالدرجة الأولىاستمراريّةَ الحياة على سطحِ الكرة الأرضيّة مع التحوّلات المناخيّة الخطيرة، بل الوجودُ مع الآخر المختلف دينيًّا وثقافيًّا، والعيشُ معًا في تحابٍّ وسلام. على هذا التحدّي الوجوديِّ تقومُ رسوليّةُ الكِيانِ اللبنانيّ. لذا نتساءلُ هُنا تِلقائيًّا: كيف السبيلُ إلى حثِّ مختلِفِالمكوّناتِ اللّبنانيّة، الّتي تتمايزُ طبيعيًا على جميع الأصعدة، على قبولِ بعضِها البعض كمصدرٍ حتميّ لثقافةِ الحياةِوالتناغمِ الدّيني والتّكاملِ المجتمعيّ ضمن تآلفِ الاختلاف. في اللّغَة الألمانيّة نقعُ على مفردة غنيّة جدًّا لتحديد الكائن البشريّDasein، أي الكائنُ هنا. وهذا المصطلحُ يُفيدُ بأنَّ الكائنَ البشريَّ يعي ذاتَه مرميًّا في معادلةٍ كيانيّةٍ لم يخترها، وينطلقُ منها إلى تحقيقِ ذاتِه. مَن منّا اختار أباه أو أمَّه، أو بلدَه أو ثقافتَه أولغتَه، أو حتّى دينَه؟ لذلك نطرحُ على ذواتناهذا السؤالَ الوجوديَّ الكبير: لماذا إذن نتنافسُ ونتصارعُ ونتحاربُ وندمّرُ بعضُنا البعضَ، ونحوّلُ زمنَنا البشريَّ إلى تاريخٍ مأساوي، على أمورٍ لم نختَرْها؟ نستخلصُ ممّا سبق أن النّزاعاتِ القاتلةَ والحروبَ المدمّرة، منذ قايينَ حتّى يومنا الحاضر، إنّما هي هزيمةٌ للإنسان.
إن التعدّديّةَ الدينيّةَ والثقافيّة اللبنانيّة، الضاربةَ في عمق التاريخ، تصلحُ أن تكونَ مختبرًا ومعيارًا. منذ أربعة آلافِ سنة قبل المسيح حتّىاليوم، دأب اللبنانيّونَ الأوائلُ الّذين أطلق عليهم اليونانيّونَ اسم فينيقيّين، على الحفاظ على الذاتيّاتِ ضمن الشّعبِ الواحد واللّغةِ الواحدة والمعتقداتِ الدينيّة الواحدة. كانت صورُ مع عمقها الداخليّ في الجبل مملكةً قائمةً بذاتها، وصيدا كذلك، وجبيل وجزيرة أرواد. كانَكلُّ مكانٍ جغرافيّ، مع حيثيّاتِه التاريخيّة والمجتمعيّة، يشكِّلُ ذاكرةً خاصّة، تديرُها سُلطةٌ محلّيّةٌ مستقلّة. إداراتٌ تتجاورُ وتتصادقُ وتتضامنُ ضمن احترامِ الخصوصيّات. هكذا بنى اللبنانيّونَ الأوائلُ سلامًا مستدامًا قائمًا على المبدأِ التالي: عليك أن تكونَ ذاتَك لكي تكونَ مع الآخرين.
على مَرِّ القرون، تعرَّضَ اللبنانيونَ الأوائلُلِاجتِياحاتٍ عسكريةٍ متتالية، من دون هَوادة، من الفراعنة، والحثِّيِّينَ والفُرس. غير أنّهم لم ينزَلِقوا يومًا إلى فكرةِ صَهرِ الممالكِ اللّبنانيّةِ القديمةِ في إمبراطوريّةٍ واحدة. لقد صَمَدوا في مبدَئهم الوجوديّ حتّى اليوم. في لاوعيهم وفي وعيهم، أدركوا أنّ الانصهارَ ليسَ أبدًا للمكوِّنات البشريّة، وليس بالتالي الطريقَالأسلمَ لترسيخ السّلام. فالانصهارُ إنّما هو حصرًا للمعادنِالّتي تدخلُ مُتنوّعةً إلى الأتّون وتذوبُ على درجةٍ حراريّةٍ عالية، وتخرجُمعدنًا واحدًا ذا تَركيبٍ كيميائيٍّ واحدٍ ولونٍ واحد. إنّ اللبنانيّينَ فَقِهوا بعمقٍ أنَّالعالمَ الحسّيَّ بأكمله خرج إلى الوجود على قاعدة التنوّع، وأنَّ الحياةَ لا تُقيمُ إلّا في حاضنة التنوّع، والسّلامَ لا يتحقّقُ إلّا في إدارةٍ ذكيّةٍ وفطنةٍ وحاذقةٍ للتنوّع. وخارجَ التنوّع، موكبُ جِنازةِ الحياة. إذا أخذنا مثلاً على ذلك جَسَدَ الإنسانِ الحيّ. نرى أنْ ليسَ هناك من خليّةٍ تُشبهُ أُخرى، وليسَ هناك مِن عضوٍ يشبهُ آخر. ولكن تتكامَلُ وظيفيًّا. غير أنّنا إذا أخذنا جثّةً هامدة، نلاحظُ أنْ ليس هناكَ أيُّ فرقٍ بين الخلايا والأعضاء. فالموتُ يُلغي الفُروقاتِ ويَصهَرُ كلَّ شيءٍ في هدأة اللاّحياة. بينما الحياةُ تُظهِّرُ التمايزَ والفروقاتِ والوظائفَ المتعدّدة.
لبنانُ الرسالةُ يعلّمُنا أنّه من دون الآخر المختلِف، لن يكونَفي وِسعِنا أن نَعيَ ذاتَنا في غيريَّتِها. فالآخرُ هو رافدٌ أساسيٌّ في بلورة الذّات. هو جزءٌ لا يتجزّأُ من الذّات وهو الطريقُ إليها. إنَّ الدينَ الحقيقيَّ والإيمانَ الصادقَ باللِه إنّما هما ركيزتانِأَساسيّتانِللانفتاحِ على كلِّ إنسان، لأنَّ اللهَ بجوهرِه المطلقِ لا يتجزّأُ ولا يُفرِّقُ بين خلائِقه ولا يتحزَّبُ لشعبٍ دونَ آخر، ولا يناصِرُ شعوبًا على أخرى. إنه إلهُ السّلامِ والمحبَّةِ والرّحمةِ لجميعِالكائناتِ البَشَرِيّة. هو الجامعُ للشّعوبِ كَمصدرٍ للوجودِ ومَصَبٍّ له. هذا ما نسعى إلى إدخالِه في عقولِ الأَجيالِ الصّاعِدَةِ في لبنانَ التّلاقي، في لبنانَ الرّسالة.
في مقارباتهم لتاريخِ لبنانَ المديد، رأى المؤرّخون أنَّ اللّبنانيّينَ لا يتحاربون إلّا إذا كان لبنانُ رازحًا تحتَاحتلال أجنبيّ. فالمحتلُّ يمارس على الدوام سياسةَ”فرِّقْ تَسُدْ”. هو المؤجِّجُلنار الخصومات والمصمِّمُللصّراعات ومُخرِجُها. وعندما يكونُاللُّبنانيُّونَ،وَحدَهُم،في إدارةٍ شبه ذاتيّة، لكيلا نقولَ في استقلالٍ كاملٍ وناجزٍ، لاحظ المؤرِّخون أنّهم يعيشون،إلى حدٍّ ما،في سلام مُتَماسِك، مع أحداثٍ محدودة وتوتُّراتٍسياسيّة لا تَصِلُالبَتَّةَإلى حرب أهليّة. وهذا يشيرُ بشكل لا لُبسَ فيه إلى أنّهم سلاميُّون في جوهرهم ويُتقنون بالتالي فنَّ العيش معًا وهم متمايزون.
منذ القرنِ السَّابعِالميلاديّ حتّى يومنا هذا، بدون انقطاع، يولدُ اللُّبنانيُّ في حُضن التنوّعِ الدينيّ والثقافيّ، بعدما كان يولدُ في سابق الزّمانِ في واحاتِ التنوّعِ النَمَطيّ والتقاليدِ المجتمعيّةِ المكانيّةِ المختلفة. كَقُوّادِ رأيٍ ومُفكّرينَ ومُحلّلين، علينا أن نُدخِلَ في عقولِ الأجيالِ الصّاعِدَةِ أنَّ السّلامَ الحقيقيَّ ليس انعدامَ الحرب. فالسلامُ الصحيحُ هو أوَّلاًسلامٌمع الذّات. إنَّ العديدَ من صُنّاعِ الحروبِ هم هاربونَ من ذواتهم الّتي تمزِّقُها أسقامٌ وأمراضٌ خطيرة. يجب أن نُلقِّنَهم أنَّ الكلمةَ هي أثمنُ شَيء يمتلكُه الإنسان. هي همزةُ الوصل بينَ مُطلقيّةِ الله عزَّ جَلالُه ومحدوديّةِ الإنسان، هي العقلُ وهي المنطقُ وهي الإبداع. والكلمةُ اليونانيّة Dialogosالّتي منها انبثقت كلمةُ حوار في اللُّغات الأجنبيّة، تعني “من خلال الكلمة”. أي “من خلال الكلمة”، علينا أن ننظِّمَ حياتَنا، ونحافظَ على ذاتيّاتِنا، ونَعيشَ معًا متمايزين، وَنَتَكاملَ في الاِحترام والتَّحابِّ والتضامُنِ والسلام، ونضعَ حلولاً لجميعِ المشاكلِالّتي تعترضُ وجودَنا البَشَريّ. ولكن عندما نُخرِسُ الكلمةَ ونلتجِئُ إلى العنف، عِندَها نكونُ قد أَسقَطنا الإنسانِيّةَالّتي ننتمي إليها، وانطلقنا في تدافعٍ انتحاريٍّ نحو تحطيمِ كُلِّ مقوِّمات جَوْهَرنِا البَشَريّ.
في جهودِنا لصُنعِ السّلامِ في لبنان،في كَنَفِ عَالمٍ مَتَصَدِّعٍ وبالتالي مُتَغَيِّر، نسترشدُ بالقانون الّذي يتحكَّمُ في الوجود الحسّيّ بأكملِه، ألا وهو “قانونُ الجَهدِ المهدور” Law of wasted effort. جميعُ المخلوقاتِ تخضعُلِهذا القانون. عَلى سبيل المثال لا الحصر،يحاولُالأسَدُ مئةَ مرّةٍاصطيادَ طريدة، سَدًّا لجوعه. فهو ينجحُ فقط في خمسٍ وَعشرينَ محاولةً، ولا يُحقِّقُ مُبتغاه في خمسٍ وسبعين. وهذه النتيجةُ المتواضعةُلا تدفعُ بهأبدًا إلى الإحباط أو إلى الكفرِ بهذا الوجودِ التاعِس. فالإنسانُ هو الكائنُ الوحيدُ الّذي ينتفضُ بعد أيّانتكاسةٍ ويفكّرُ فورًا في الانسحابمن ساحةِ الكفاح. لهذا الإنسانِالـمُحبَط، يقولُ العلماءُ الّذين اكتشفوا هذا القانونَ، عَليكَ أن تخضعَ أنت أيضًا لقانونِ الجَهدِ المهدور، لافتينَنظرَه إلى الأمرِ التَّالي: “إننا نفشَلُ فقط عندما نوقِفُ المحاولات، وليس عندما لا ننجحُ في محاولاتنا”. فلا فشلَيوهنُ عزيمتَنا في متابعة السعيِ الحثيثِ والعنيدِ إلى صُنعِ سلامٍ مُستدامٍ في لبنان. بفضلالانتظاراتِ الجميلةِالّتي تَستَوطِنُ عقولَنا وتُقيمُ في ربوعِ خيالِنا المـُنْعَتِقِ من أغلال الوَاقِعِيَّةِ الخانِقَةِ والمكبِّلَة، وتدفَعُ بنابالتالي إلى اليَقينِ الجازِمِ بأنَّ اليَومَ الأجمَلَ هو الآتي، بِفَضلِ هذهِ الانتظاراتِ الجَميلة، سنحوِّلُ هزائِمَنا المتلاحِقَةَ إلى مَدارجِ إقلاعٍلمحاولاتٍ أُخرى مُتَقاطِرة، حتّى ننتهيَ جبرًا إلى استيلادِلبنانٍ جديدٍ، وطنِالإنسان، عاشِقِالسّلامِومـُدمِنِ ثَقافَةِ الحَياة. وشُكرًا للإصغاء.