حينَ يصدقُ القلبُ والحسُّ والعقل، تصبحُ الموهبةُ جذوةً تُلهبُ ما تَمَسُّ من أوتارِ الإعجاب. فالصّدقُ أساسُ الإبداعِ، ومَظهرٌ ثابتٌ من مظاهرِ النّجاح، لا يأتيهِ إلّا القويُّ الذي يوزَنُ له رأي.
إحسان صادق النَّقيب الشَّهم، زَخمٌ في مسيرةِ التألّقِ الغنائيّ والتّمثيلي، خرجَ من قمقمِ القوالبِ الجامدة، وقدَّمَ اختباراً نَوعياً بسطَ سلطانَه على نَسيجِ الأداءِ، فتحوّلَ معه ياقوتةً يَقبلُها الذَّوقُ على ارتياح، ويمتدُّ على مقاطعِها ظلُّ الموهبة الرّاقي. ولمّا كان النَّقدُ لا يُثني على ما لا يرتاحُ إليه، فهو، مع ” إحسان “، لم يُحسِنْ إليهِ بالتّراضي، بل أُخِذَ بجَمالِ الحقيقةِ التي ترفضُ زخرفةَ المساحيق.
محاولةُ إحسان صادق في صُلبِ التّمثيلِ والغناء، ما جَفَّت قرائحُها، وليسَت طَوافاً على الأمكنةِ الخَرِبة، لأنّ الرَّجُلَ وفَّرَ لها مُدرَكاتِ الموهبة، ونوعيّةَ الفَهمِ في نظامِ الفنّ، بينَ الدِّرايةِ والمَهارة. ولأنّ ” إحسان ” المَوهوبَ أدركَ ما قالَه “أرسطو” من أنَّ الصَّنعةَ لا تكفي، فهو لم يقف على الحيادِ في مَعمولِ الإبداع، فشرارةُ الأحاسيسِ وطقوسُ الدَّهشةِ، جعلَت إحسان صادق نزيلَ الفنِّ الخالص.
كَرجاتُ ” إحسان ” في التّمثيل، والغناء، لا تسكنُ إلّا في صرخاتِ القلوب، وتُقرَأُ بوجوهٍ مختلفة، فتارةً تستدعيكَ الى الحَدس، وتارةً الى العَصف المُرَوَّس. إنّ أغانيهِ وأدوارَه ليسَت كالفَخّارِ لتَستَجديَ الشَّمس، وليسَت من قَصَب لتستَعطفَ الرّيح، إنّها، معه، رسائلُ أَقربُ الى الشَّعائر، وإقناعٌ بجودةِ الأداءِ، والإقناعُ فَنّ. من هنا، يَكمنُ نجاحُ الممثّلِ والمُغَنّي أمامَ محكمةِ الإجماعِ الشَّعبيّ، ولا سيّما إذا كان جسدُ الإبداعِ مُتَمَفصِلاً على قامتِه.
إحسان صادق ما سارَ تحتَ رحمةِ الصّدفة، ولا خضعَ لمشيئةِ الحظّ، فالحياةُ معه خياراتٌ وقرارات، لذلك، أسَّسَ لِخَطٍّ في التَّمثيلِ، وظيفتُه الوصولُ الى أَكملِ المقصوداتِ الإدائيّة. وهذا المُرتَكَزُ مُتعِبٌ، يقضي تَلَمُّسَ طريقِ التفوّق، وهل كان الإقتباسُ إلّا انفِكاكاً عن الكَونِ وتَطاوُلاً عليه، ليُبدِعَ الواحدُ على راحتِهِ ؟؟
إحسان صادق بَصيرٌ في رَسمِ ملامحِ الشّخصيّاتِ، بقوّةِ المَلَكَةِ وسِعةِ الإطّلاعِ، والتَأَصُّلِ في القواعدِ، الى جانبِ الذَّوقِ والقريحةِ، وتلك الخَواصُّ تشكّلُ الفرقَ بين المُحَلِّقِ والعاثِر. من هنا، يُنتَبَهُ الى ” إحسان ” من دونِ خَدش، وتُثيرُ براعتُه فينا الوعيَ الى أنّ التّمثيلَ ليسَ، أبداً، تَقريرياً، فليسَت وظيفتُه الإِبلاغَ، ليس إلّا. لذلك، حَصَّلَ” إحسان “، عن حَقّ، شهادةَ الامتيازِ في مُطابقةِ الإِدهاش، فالعلاقةُ العُضويّةُ بينهما تُشبهُ تماماً الرّابِطَ بين المَركبِ والماء.
إنّ مسألةَ التّمثيلِ، بالرَّغمِ من شروطِها الصّارمة، والتي تحدِّدُ المِنهاجَ والحَدّ، هي ملجاٌ ساعةَ تقسو الحياةُ، ويُمَسُّ الواقعُ بالتّشويه. لكنّ هذا الفنَّ لا يرتقي الى هذا المقام من تلقاءِ نفسِه، بل من خلالِ فنّانين قادِرين بارِعينَ في حِرَفيَّتِهم، يتناسلُ معهم النّجاح، وإحسان صادق في عدادهم. فهويتمتَّعُ بالفطرةِ الماهِرة، بَرهنَها في الغناء، ثمّ في الأداءِ التّمثيلي، فداسَ بها شَوكاً وصعوباتٍ وعقبات، وواجهَ المُؤذيَ، لكنّه لم يتَلَمَّسْ سوى الإتّجاهِ الذي لا يجدُ فيه إلّا المياهَ العَذبة. لقد وَعى المصاعبَ التي اصطدمَ بها، ورسمَ في ذهنِه حلولاً لها، وواجهَها بصلابةٍ وعَزمٍ ونَزعةٍ الى التفوّق، فبلغَ قَدرًا من القمّة.
إنّ استجاباتِ إحسان صادق الحَرَكيّةَ، وقدرتَه على اتّخاذِ المبادراتِ في تركيزٍ موصوف، هما الفاصِلُ بين الفنّانِ الإصطناعيِّ والفنّانِ الأَصيل. وهذه بالذّات، حيثيّةُ التَّماهي بين الفنّان والاقتباس، ونتيجةُ التَّرابطِ بينهما، بدونِ اجتهاد. ولمّا كان التّمثيلُ عشيرةَ ” إحسان “، تَبَوَّأ فيه، وباستِحقاقٍ، وزنَه الحقيقيَّ، من دونِ غَطرسةٍ واستِعلاءٍ وادِّعاء، فلا بدَّ بالتالي من التّواضع.
إحسان صادق المثَقَّف، أنشَأَ مع مُتَلَقّيه، في الغناء والتّمثيل، وشائِجَ مرموقة، ونقلَ إليهم بالعَدوى، حالتَه أو حالاتِه، فتَبَنَّوها، وتسامَت في أعيُنِهم، حَظوَةً مردُّها التَّقديرُ لا المُسانَدة. وكأنّي بِإحسان، يُحدِّدُ أنَّ قيمةَ الأداءِ نسبيّةٌ، تُقَدَّرُ تِبعاً لإمكانيّةِ المُؤَدّي على شَدِّ أذواقِ المُتَلَقّينَ، أيّاً كانَ لونُهم، ومهما تَنَوَّعَ السِّياقُ، وتعدَّدَتِ الشخصيّات. لذلك، لم يكنْ ” إحسان ” مُجرَّدَ قاطِنٍ في هيكلِ التّمثيل، والغناء، أو مُتَسَلِّقاً بِساطاً سحريّاً يوصِلُهالى حيثُ يريدُ أن يَرسُوَ، وبالتالي، لم يَنشرْ على هيئتِه أجنجةَ الطَّواويس، فكَثُرَ عُشّاقُه.
في معابرِ الشّاشة، وعلى رنّاتِ الوَتَر، كان إحسان صادق صاحبَ القلبِ الصّادقِ، والإحساسِ المُرهَف، طَبَعَتْه غِيرةٌ على التَّمثيلِ حينَ نشأَت بين يَدَيه، فزُفَّتْ الى دارِه، بأَصالةِ موهبتِه، ولولا المواهبُ، لَعَظُمَت محنةُ الفنون. إحسان صادق المُدافِعُ عن الفنّ، استطاعَ أن يُجَمِّدَ سحرَه على عرشِ العيونِ والأَذواق، فاستطاعَ حِلمُه أن يُطلِعَ الشَّمس.