قال ابنُ رَشيق : ” سُمِّيَ الشّاعرُ شاعرًا لأنه يشعرُ بما لا يشعرُ به غيرُه “، والمعنى أنّ التقاطَ الشّاعر للمعاني، وانفعالَه الإحساسيّ بها، وإدراكَه المنسجِمَ مع فَهمِها، وتصويرَ خيالِه إيّاها لوحاتٍ موحية… كلّ ذلك، يرقى بالشّاعرِ، وبشِعرِه، الى حالةٍ كانزةٍ تسعى الفنونُ الأخرى الى أن تتطاولَ لأخذِها.
وهذا يعني، أنّ هناكَ نزاعًا أو صِدامًا بين الأنماط الفنيّة، وإنْ كان تَوَجُّهُها واحدًا، ولا ضدّيات، في الظّاهرِ، بين أهدافِها،أو طبقيّة في حالات التّأثير، وإن كان بعضُها بحاجةٍ لأن يُنفَضَ الرّمادُ عن بقيّةِ نارِه ليشدَّه حنينُه الى محورِ ذاته. من هنا، فليس أيُّ فنٍّ، كالشِّعر،يستمرُّ بليدًا، متهاونًا، لا مُبالِيًا، عندما تُلِحُّ عليه فرصةٌ يستعذبُها، ويُعبِّرُ عنها بارتقاءٍ وغبطة …
في رحابِ الفؤاد، بابٌ لكلِّ موهبة، يُعطى الطّاقة اللازمة ليجدَ طريقَه الىالإبداع، ويتلمّسَ إمكانيّةَ تَحوُّلِهِ من مخلوقٍ الى خالِق، بفِعلِ حدثٍ ما، أو خضّةٍ تنقلُه من وجودِهِ بالقوّة، الى وجودِه بالفِعل. إنّ الشِّعرَ، على هذا الأساس، إشراقٌ مُتَسامٍ،يعكسُ حقيقةَ ما يختلجُ في النّفس، وما يكونُ عليه طابعُها تجاه كلِّ ما يُدهِش، ويُعشَق، ويُغتَبَط به،وحتى ما يُعانى منه، من حزنٍ، وظُلمٍ، وقيدٍ، وسجنِ المادة، واحتراقٍ في الظّلمة، ونَشازٍ في قيثارةِ الحبّ…لذلك، نرى الشِّعرَ يعيشُ مخاضَ السَّفرِ من العاديّةِ الى مناخِ الفَوق، حيثُ الصّورةُ الخصبةُ، الموحِية، المتحرِّكة، والتي يرتاحُ لها لِسانُ الخَيال، فينطق.
إنّ الشِّعرَ فنٌّ وليس عقيدة، تجربةٌ جَماليّة وليس فتى المادة، غِناءٌ مُشتعِل وليس صراخًا يابسًا، وَجْدٌ روحيٌّ وليس انتحالَ وجود. إنّه مساحةٌ واسعةٌ للألوان، والأنغام، يهمسُ للزَّهر، ويلفحُه مَرُّ النّسيم، ويألفُ لتنهّداتِ النّرجس، ورعشاتِ الجداول. إنّه في موقعِ النّفس، تُراسِلُ الخلجات، لتُحيِيَ نشيدَ الأحلام، وحفيفَ السّماء، والإيمانَ بالشّاهقِ الكَونيّ. إنّه أشرعةٌ بيضاءُمرفوعةٌ فوقَ موجِ الرّوح، والعواطف، أنفاسُها ريحٌ مُجنَّحة،وقامتُها تجوبُ النّجوم، يُنَزَّلُ عليها النّورُ كأنّها المُختارة،وتتفرَّدُ بالجَمال كأنّها الدّهشة، واستنادًا قيلَ إنّ الشّاعرَ، بتذوّقِهِ،يرى ما لا يراه سواه.
ومع ذلك، لا يقتصرُ الشِّعرُ على ألواحِ الفرح، والوَلَعِ بتورّدِ الوجنات، إنّما يدقِّقُ، أيضًا،بأسرارِ التأمّلِ والمنطقِ، بدون استغراب، فمواكبةُ الفكرِ لا تقلُّ حجمًا، وقيمةً، عن تشهيقِ العواطفِ، وشَحنِ الأحاسيس، وبَعثِ الخَيالِ الى المدى الأبعد. فتموّجاتُ المشاعر، واهتزازاتُ التّصاوير، لم تَقُدِ الشِّعرَ الى إلحادٍ عقليّ، أو إغلاقِ المُعطى المُشِعِّ للرّؤيةِ، والتّحليل، والاستنتاج، ما أفضى به، وبوساطةِ الكلمة، الى تَناغُمٍ في حَملِ رسالةِ الفكرِ، ورسالةِ الجَمالِ جَنبًا الى جَنب، فامتلأت مصابيحُه بزيتِ العقلِ والقلبِ معًا.
ليس الشِّعرُ سَفَرًا شاقًّا، إذا ارتقى من موهبةٍ متوقِّدة، واستطاعَ بوجدانيّتِهِ أن يمحوَ الفواصلَ بين ذاتِهِ والحياة، وينعتقَ من الزّمانِ والمكان، ليتّصلَ اتّصالًا حميمًا بالإبداع، ويعبرَ الحاجزَ بين العاديِّ المُكَرَّر، وابتكارِ المُدهِش، ليكونَ رحلةً من الحواسِ الى الخيال، ومن الرّؤيةِ الى بعضِ الرّؤيا. وهكذا، عندما يقتلعُ نفسَه من المحدودِ الى الشّامل، ويشعرُ برُقِيّ، ويفكّرُ بتَماسُك، فكأنّه يعملُ بالنّيابةِ عن الإنسانيّةِ جَمعاء.
ليس مُصادفةً أن يكون الشِّعرُ في مواقعَ متقدّمة،فهو، وحدَه، يسمعُ دبيبَ الصَّباحِ في السّكون، ويرى الحُبَّ تارةً يحملُ وردًا، وتارةً يخفي خلفَ ظهرِهِ خيانة، ويعاينُ قِرانًا بين الرَّعشةِ والصَّخر… في الذَّوقِ، والرَّمزِ، والصّورة، والتّأثير، له الزّعامةُ الحقّ، والذي يحتجُّ، فليَفعَلْ حتى يُبَحَّ صوتُه…