عندما سمعَت بيروتُ بأخبارِهامن مفكِّرٍ طليق، مُشرِقِ الذّكاء، تجري بين يدَيهِ أسبابُ المعرفةِ، والفَهم، تحوَّلَت الى فنائِهِ، فاستظلَّتهُ لتُطفئَ صداها. سهيل منيمنه سوقٌ أدبيّ، وقِيَميّ، ودائرةُ فِكرٍ متجوّلة، لِذا، فإفطارُ التأريخِ، معه، ما كان، يومًا، على الخبزِ البائت.
إنّه المؤرِّخُ المهذّب، والنّبيلُ الأصيل، اهتمَّ بنشرِ تراثِ بيروت العظيمة، بالصّورةِ والكلمة، وهو الكَلِفُ بمواصفاتِ القديم، فقد حقَّقَ نقلةً نوعيةً بإخراجِهِ نكهةَ عاصمتنا العريقة، بعدَ أن خطفَتها خُطوبُ الدّهر بلُذوعيّةٍ مكروهة، فردَّ لها سُنَّةَ أَلَقِها، لتعودَ أنيسةً تجعلُنا نستغرقُ، معها، في المتعة.
سهيل منيمنه الشَّغوفُ بأسرارِ بيروت، والبارعُ في دقّةِ البحث، والاستقصاء، والخصبُ الذّهن، أَطلَعَ صُوَرَ بيروتَ العزّ، في أجملِ هيئاتِها وحلَلِها، واضحةَ الدّلالةِ على سحرٍ منفرِدٍ في بابِه، وكأنّ الرَّجُلَ أنفقَ في بيروتَ حبَّه، وتطوَّعَ للقولِ بأنّ رونقَها خاطفٌ كالنّور، تُفتَحُ العينُ به على مسافاتٍ من الرُّؤى، ما يُصيبُ الرّائيَ باهتزازٍ، وارتعاش، لأنه أمامَ كنزٍ خالدٍ ينتقلُ من الأمسِ الى الآتي من الأجيال، على مَتنِ سحائبِ الجَمال.
إنّ دقائقَ التّفاصيلِ في زمانِ بيروت، لم تكنْ لتُعرَفَ لولا سهيل منيمنه المُتميّزُ بإجادةٍ في تقميشِ طوابعِ بيروت، برغبةٍ، ولذّةٍ، وشَوق، ولا يحسبَنَّ أحدٌ أنّ من السّهلِ أن يتّصفَ أحدٌ بكلِّ هذه المزايا. فسهيل منيمنه الذي كان على معرفةٍ وبَصَرٍ في شؤونِ بيروت، وتراثِها الذي لم يكنْ صحراءَ عوراءَ قليلةَ العيون، ليس فيها ماء، قد قاربَ حقيقتَها بوقارٍ، واتّزان، استنادًا الى أنْ لا حِرمةَ أَولى بالرّعايةِ من حِرمةِ الحقيقة.
لقد بذلَ منيمنه كلَّ جهدِهِ لتكريمِ وفادةِ ضَيفِهِ الأعزّ : بيروت، وأودعَها واسطةَ قلبِه، فعرفَت أنّ موقفَه منها ليسَ منحولًا، ورفعَت له عقيرتَها، لأنّه لم يُلقِ بها في غربة، ولم يُغمضْ عينَه عن ألوانها، بل حملَها فِقراتٍ خلّابةً تُعَدُّ من الآياتِ التي تتواردُ في حياةٍ، وانسجام، وبدونِ حاجةٍ الى وساطةٍ بينها وبين الحقيقة. إنّ منيمنه المؤرّخَ العلّامة، لم يتعاطَ مع تاريخ بيروت على طرازِ قصصِ المواقد، بل قصدَ الى أن تحتفظَ بيروتُ بمكانةٍ شعائريّةٍ رفيعة، لِذا عمدَ الى تغليفِ التّاريخِ بالتقنيّةِ العلميّة، يوشّيهِ بأسلوبِهِ الشّائقِ الخلّاب، حتى لا يصبحَ التاريخُ مجرَّدَ حكايات. من هنا، كان الرَّجُلُ من العائلةِ المالكة في التّأريخِ، والتّوثيق، فتركَ، في جدارِ بيروت، بَصمَتَه.
في أعطافِ حياةِ منيمنه تَمالُحٌ مع الثّقافةِ التي كانت زادَه الجليل، ما مكَّنَه من إمعانٍ في السّعيِ خلفَ المعارف، فشمَّرَ عن ساعدَيه ونَقَبَ عن تاريخ بيروت التي أضرمَت نارَ تعلّقِهِ بها، وأصبحَ وجهُها، معه، مباركًا. ويُشهَدُ لهالتزامُهُ بأن يكونَ قلبُهُ وعاءَ ودٍّ لبيروت، وضميرُهُ وَقفًا على عهدِها، وعقلُهُ ناشِرًا لفَضلِها، وهذه بمثابةِ نُذورٍ وطنيّةٍ فرضَها سهيل منيمنه على نفسِه. وكأنّني به يقولُ لبيروت : أنا لا أحولُ عن عهدِكِ، وهواكِ، وإنْ حالَتِ النّجومُ عن مسارِها…
بيروتُ، مع سهيل منيمنه، صورةٌ مُفرَدَةٌ لا يُعرَفُ لها شبيهٌ موثوق، ولا يمكنُ الإقرارُ بأنّها أَثَرٌ جغرافيٌّ صِرف، فهي عاصرَت، على مَرِّ دهرِها، يُبوسًا، وكِفرًا، ونخاسةً، ونالَها غَصَصٌ من الظّلم، ومع ذلك، لم يَفتْها طَورُ النّور. لقد قاربَها منيمنه طَبَقًا مُلِئَ مِسكًا، وسَيرًا لأحاديثِ الدّنيا، ماضيها وباقيها، فتحوّلَت معه آيةً هي قيمةٌ للخلودِ، كلّما تَذَكَّرَ الخلودُ نفسَه.