من النّاسِ مَنْ تَرى عيناهُ بلحظات، ما يَصعبُ أن يراهُ كثيرون بِعُقود. عَينانِ سريعتا الالتقاط، سريعتا الاستيعاب، لهما اندفاعٌ خاصٌ لا يتردَّد، يحرِّكُهما شعورٌ مُرهَفٌ، وشخصيّةٌ قويةٌ مُسَيطِرةٌ لا تَدَع الأحداثَ تفلتُ منها. عينانِ لا يدنو منهما الإخفاق، أو الاصطدامُ بعقباتٍ في الطريق الموصِلِ من المادةِ الى الحياة.
هو محمّد شامل، صاحبُ النَّفسِ المُضطَرِمة، فَكَّكَ حجابَ العناصرِ التي تشكِّلُ المحيطَ الحيويَّ لجسمِ الحياة، وقالَ ما قالَ ” عالماشي “، بوضوحٍ وجرأة، وذلك، للتَّعليمِ لا للتَمَرُّن، فاندحرَت على قلمِه أَلغاز، وكان كالتّذكرةِ في إتقانِ عِلم الاجتماعفلا يُغادرُ منه شيء.
محمّد شامل هو فَنّانُ الشّعب، بل فَتّانُهُ، لم يكنْ، مرّةً، واعظًا أو ناصِحًا، كما دَرَجَ أصحابُ الأدب الإصلاحي، أو بعضُ السوسيولوجيّين، لكنّه قاربَ قضايا مجتمعِه إيمانًا منه بأنّ الجهلَ بها قَبيح، والأَقبَحَ منه الإصرارُ عليه. فالمعرفةُ العميقةُ للواقعِ، بكلِّ مندرجاته، هي المدماكُ الأساس في تَرَقّي الشّعوب، لأنها تفتحُ البابَ أمامَ القِيَمِ الوَضّاحةِ للخَير، والفَضّاحةِ للشرِّ، وأساليبِ الزَّيَفِ، والخُبثِ، والرّياء… من هنا، كانت القِيَمُ الأخلاقيّةُ، مع محمّد شامل، فريضةً، وتَحَدِّيًا، وتثبيتًا لمشروعِ إنسانيّةِ الفرد، والجماعة، وسياجًا يصونُ من الزَّلَل، وكأنّ شامل اعتنقَ ما قالَه أحدُهم، سابقًا: إذا أُصيبَ النّاسُ في أخلاقِهم، فأقيموا عليهم مأتماً ونُوحُوا.
في غابةٍ من العاداتِ الذّميمة، والنّزواتِ المُشَوِّهة، لم يقفْ محمّد شامل جليديَّ القلم، ولم تَعقلِ الحيرةُ يدَه، فتبنّى المواجهة، وراحَ يصوِّرُ بيدِهِ كلَّ صورة، ويحكي بصَوتِهِ كلَّ صوت، ناقِدًا بموضوعيّةٍ بارزة، علَّه يصلُ لِنَقلةٍتُبَشِّرُ بصَحواتِ الرّبيع. لقد أَطَّرَ لهذه النّقلةِ من تجاربِهِ، وتأمّلاتِهِ، وثقافتِهِ، وصبَّ دُرَرَهُ في مقاماتِ ” الدِّنيا هَيك “، هذه الدّنيا التي تآكلَتها الشهوات، والأنانيّات، وسيطرَ عليها الزمنُ المُرُّ الذي وَلَجَ محمّد من بابِهِ ليوقدَ على سُفرةِ النّاسِ نارًا تُشبِعُ جوعَهم الى الأحسن، بدِقّةِ فَهم، وحلاوةِ كلام، وبجرأةٍ لطيفة لم تصدمِ الحُذّاقَ الذين ينشطون لتطبيلِ الإباحةِ والتّحريم، ويعتبرون الصّحيحَ الصّادقَ كُلفةً على قلوبِهم.
في ” الدّنيا هيك ” خبزٌ ومَلح، همانتاجُ عقلٍ ناضج، وذكاءٍ وقّاد، وخفّةِ روح، وهذاقليلٌ من مَحاسِنِ ” المختار “. فشواردُ قريحتِهِ، وحلاوةُ نوادرِهِ، واختيارُ قضاياه، ومُلَحُ حديثِهِ تصريحًا وتلميحًا، خَيرُ إثباتٍ على أنّ الرَّجُلَ عاشرَ أسفارَ محيطِهِ، دَهرًا. واللّافِتُ أنّ أسلوبَ شامل يجري على منهاجِ البساطةِ والصّراحة، في لغةٍ قريبةٍ شفّافةٍ شعبيّة، طريفةِ السِّياق، وحَسنةِ المنطِق، تدوِّنُ، بظَرفٍ، وبدِقّة، عاداتِ النّاسِ، وأحوالَ المجتمع، بعيداً عن النّقمةِ، والهَدمِ، والتمرّد. وكأنّ شامل أرادَ أن يكونَ كالمعلِّمِ الذي يتعاطى مع طلّابِهِ، باحترامٍ، ولُطفٍ، وأُنس، لينقلَ إليهم ما يكتنزُهُ من معرفةٍ مُفيدة.
محمّد شامل، عصرٌ في رَجُل، يقودُ سامعيه، ومُشاهدي برامجِهِ، بديباجتِهِ المُحَبَّبة، وبمُتونِهِ المُلفِتة، وبفصاحتِهِ الظريفة، الى حيثُ يريد، تأثُّرًا وتَعَلُّمًا، بانشراحٍ وليسَ بفَرض، ما يدفعُ الى الاعترافِ بأنّ محمّد شامل أديبٌ خَلوق، وسوسيولوجيٌّ مُتَبَيِّن، ولبنانيٌّ لم يخرجْ عن عُرفِ الوطن. لا شكَّ في أنّ حظَّ مَنْ سبقوا هذا الجيل، هو أَجمَلُ من حَظِّ هؤلاء، لأنّ أولئكَ عرفوا محمّد شامل.