لم تَختَر كلود أبو شقرا الطريقَ المختصَرة حتى تكونَ كتاباتُها علامةً يمكنُ اختصارُها بتَعريف، فالكاتبةُ جوهرُها إبداع، لأنها تميلُ الى استكمالِ ذاتِها بأشكالٍ من الجَمالِ لا نزالُ نجهلُها. لكنّ ما نصلُ إليه، في سلسلة كتاباتها وإصداراتها، وعندما تتجاذبُ الأفكارُ في مقطوعاتِها، ويحيا بعضُ صُوَرِها ببعضِه الآخر، أنّ الابتكارَ هو موطنُها الواحد.
هي مخزونُ الأُنس، وناسِجةُ الدّهشةِ والصَّدى، في بسمتِها ديناميّةُ الرِقّة، وفي نظرتِها حميميّةُ اللّطف،وفي قلبِها عشقُ لبنان، لِذا، كانت، وهي الآن، الوجهَ المُشِعَّ في أدبِ الإنسان، وأَكرَمَ الناسِ عِشرةً معه، فقد أسَّسَت له إمبراطوريّةً بعاصِمَتَين: هيَ، والقلم. وعندما وثَّقَت علاقاتِ التّحالفِ معه، تجاوزَت العادِيّين مِمَّن تَنسحبُ عليهم مقولةُ أنّ حِبرَ الأقلامِ باهِظ.
كلود أبو شقرا، بعذوبةِ كلامها، وسلامةِ معجمِها، أكَّدَت على سلطانِ الجَمالِ في التّآليف، فالجَمالُ، بحَسبِها، ليس على رتبةٍ واحدةٍ مع مكوِّناتِ الأدبِ الأخرى، لذلك، لم تُكابِدْ في عَمارةِ الجَمال، وتركَت قلمَها مُسترسِلاً لِما أمدَّتهُ به قريحتُها المتوقِّدة، ولِما أَقبَلَ عليه من ذوقِها السّليم، وكأنّها تقول : مِن دونِ الجَمال، يتحوَّلُ الأدبُ الى ثعبان…
هذه المرأةُ التي ثارَت على مفاهيمَ بالية في التّعاملِ مع المرأة، كان صوتُها من الأصواتِ العاليةِ النّبرة، في التّأكيدِ على أنّ في قهرِ المرأةِ عاراً يلطِّخُ جبينَ الإنسانيّة، بل ضميرها، وقد رُوِيَ هذا الصّوتُ من ماءِ المواجهة، فما زادَه إلّا ظَمَأً. لقد كان شوقُها الى الكتابةِ في هذا الموضوع، شَوقَ السَّحابِ الى العواصف، فأَهَّبَت صفاءَ ذِهنِها، ونقاءَ حِبرِها، وأقامَت عِشرةً بينها وبين الكلمة المتصدِّية، فأخذَتها في وجهَيها، مرارةِ التّوصيف، وزِيِّ الدّفاع، وفيهما ترصيعٌ وتَطعيمٌ لتكتبَ كلود الثّائرة كما يطيبُ لها. من هنا، كانت كتاباتُهافي دفاعها عن المرأة، وهي النّصفُ الإنسانيُّ الأَجمَلُ والأَمثَل، وفي مواجهتها التقليدَالسّائرَ في نخاستِها، واستعبادها، وتعنيفها، وقهرها بالإكراه، وتجريعها أشكال التّحقير، وكذلك، في تفوّقِها، وبراعتِها، وحضورِها الثقافي الحضاري،ولا سيّما في كتابها ” نساءٍ عربيّاتٍ “، يصحُّ فيها ما قيلَ عن الفارقِ بين المُجيدِ والمُبدِع، وهو كالفارقِ بين مَنْ يُسَمِّعُ قصيدةً حفظَها بإتقان، فيُقالُ له : أَحسَنت، وبين مَنْ يَجبلُ عباراتِ القصيدةِ بإحساسِه، وبزفراتِه، فيُقالً له : آه.
إنّ دراساتِ النّقدِ الأدبيّ، مع كلود ابو شقرا، تمتازُ بِحُسنِ وضوح، وبدقّةِ تَصَفُّح، وبجودةِ مُقارَبة، وباستواءِ صياغة، وباستجلاءِ حقيقةِ ما يتحكّمُ بمحتوى النّص، أو الكتاب، كلُّ ذلك يدلُّ على أنّ كلود النّاقدةَ مطبوعةٌ بشخصيّةٍ مستقيمة، غزيرةِ الملاءمةِ لمَناقبِ الحقّ، بعيدةٍ عن التَّحامل، لا ترجو إلّا تبيانَ القيمةِ، ثقافيّاً وإنسانيّاً. وقد تعرَّفنا، في كتابها النّقديّ ” ثائر يزرع الأمل، أضواء ملوّنة على فكر جورج شامي “، كما في سائرِ كتاباتِها، الى شخصيةٍ وقفَت من الأدبِ وَقفةَ عنايةٍ بهذا السِّفرِ النَّفيس.
إنّ إسم كلود أبو شقرا مُنحازٌ الى الإنسان، والوطن، فالكلمةُ، معها، لها بُعدٌ إنسانيٌّ ووطنيّ. وقد أقامَت كلود مع الكلمة إِلْفَة، وتركَتها تعبِّرُ عمّا في ذاتِها من تَبَصُّر، وثقة، وتُحَف، ونداءٍ لِمسارِ حقوقِ الإنسانِ حتى تكبرَ فُرَصُه في تعميمِ السّلامِ والخير. ولهذا، أسَّسَت كلود أبو شقرا موقع”ثقافيّات “، وشاركَت في إطلاقِ موقِع ” ألِف لام “، مع اللّامع جورج طرابلسي، واقترفَا سَوِيّاً خطيئةَ غَزو، هي أنّهما دخلا الى قلوبِ الناس بدون استئذان…