أيها الأحبة،
إن من يستمع الى عصام خليفة يقارع أصحاب الشأن بصوته الجهوري الهادر يخال أنه مدعّم بفيلق من العساكر أو بفصيل ميليشاوي مسلّح حتى الأسنان، لكنك لن تلبث أن تفاجأ أن هذا الفلاح النازلَ من جرود البترون لا يمتلك سوى قلمٍ لا ينكسر وإرادةٍ لا تلين وقلبٍ غيرِ هيّاب لا ينبض إلا بالعزة والكرامة والعنفوان.
عصام خليفة … من أي مفصل نُمسك بهذه الشخصية الفذة ! أترى الكفةُ تميل الى النقابي الذي لم يعرف الكلل ولم يهادن أو يوارب يوماً، أم الى الأكاديمي الذي أثرى البحث التاريخي، أم الى المناضل الملتزمِ بالقضايا الوطنية والإنسانية ؟ وجوه متعددة لكن النبض واحد : الإيمانُ بالإنسان والدفاعُ عن الحق مهما بلغت الأثمان.
في عام 1971 نجحتُ في امتحان الدخول الى كلية التربية في الجامعة اللبنانية، آتياً من مدرسة داخلية. كان الوطن الذي نعرفه هو ذاك الذي صاغه الأخوان رحباني وغنته فيروز، وكان علينا بالتالي أن نتلمس طريقاً تدخلنا الى الوطن الحقيقي. وشاءت المصادفات الحميدة أن يكون قد سبقنا الى كلية التربية بثلاث أو أربع سنوات شاب ينبض بالحياة والطموح، أسّس مع زملاء له حركة اجتذبت الشباب المستقل الحالمَ ببناء وطن بعيد عن الاصطفافات الطائفية والمذهبية، تحت اسم “حركة الوعي”. عبره دخلتُ الى الحركة التي أسهمت بشكل فاعل في تأسيس “الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية” وانتخب عصام خليفة أول رئيس له. معه أدركنا أنه “ما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا”، فسرنا معه في المظاهرات للمطالبة بدعم الجامعة واستقلاليتها وإنشاء الكليات التطبيقية. أذكر تماماً كيف كانت الهراوات تنهال عليه بالتخصيص، وهو بصلابة قل نظيرها لا يتراجع ولا يستكين. كان عصام قائداً بكل ما للكلمة من معنى وكنا نتندّر بمواقفه الجريئة، بشكل خاص ذاك الجواب على سؤال طرحه الرئيس فرنجية على رئيس الجامعة آنذاك الدكتورأدمون نعيم الذي كان يزور القصر الجمهوري وبرفقته ممثل الطلاب في مجلس الجامعة عصام خليفة. سأل فرنجية: “من وراء هؤلاء الطلاب؟”، فانبرى عصام ليجيب: “وراءنا إيمانُنا بالوطن والجامعة ومستقبلُ شبيبتنا”.
هذه التجربة الواعدة، كما آمالٌ كثيرة في الوطن أُحبطت عام 1975. إلا أن قدر عصام خليفة مرتبط على ما يبدو بالجامعة الوطنية فعاد اليها أستاذاً عام 1980 ليتابع مسيرته بزخم أقوى كممثل لأساتذة الفرع الثاني في كلية الآداب، ومن ثم كممثل لأساتذة الكلية في مجلس الجامعة وكرئيس للهيئة التنفيذية لرابطة الأساتذة المتفرغين. واللافت في هذه التجربة الغنية أن من بين الذين أيّدوه كما من بين الذين خالفوه لم نجد أحداً يشكّك بنزاهته وإخلاصه وتجرّده.
لكن انشغال عصام خليفة بالعمل النقابي لم يصرفه عن الهم الأكاديمي. وهو مذ كان يعدّ الدكتوراه في باريس أدرك أن التاريخ علم يبنى على الوثائق وليس على الروايات والسرديات غير الموثوقة، فراح ينقّب في آلاف الوثائق في الأرشيف الفرنسي قبل أن يعود وييمّم وجهه شطر اسطنبول حيث غرف من كنوز أرشيفها مادة لعشرات الكتب ومئات الأبحاث أغنت المكتبة التاريخية العربية بما تحتويه من معلومات ديموغرافية وتقسيمات ادارية وجداول احصائية ورسوم ايضاحية. إن أهمية هذا الجهد التأريخي لا تكمن في العدد الوفير من الكتب المنشورة، على أهميته، بقدر ما تأتي من الجهد المبذول لتجديد الكتابة التاريخية عبر التركيز على الديموغرافيا والتاريخ الاقتصادي والاجتماعي والتربوي، أي أن عصام خليفة أسهم في ترسيخ أسسِ مدرسة تاريخية جديدة تهتم بتاريخ المجتمع، بدل التمحور حول انجازات الحكّام. وهو من أجل تعميم هذه التجارب البحثية الرائدة، ساهم في تأسيس الجمعية اللبنانية للدراسات العثمانية، والجمعية التاريخية اللبنانية، وساهم في تنظيم العديد من المؤتمرات، كما شارك في عشرات المؤتمرات العربية والدولية.
من منبر الجامعة الى فضاء الوطن الرحب سطع نجم عصام خليفة من خلال دفاعه الشرس عن القضايا الوطنية. فهو اتخذ من الحركة الثقافية في انطلياس منصة لإطلاق قنابله المضيئة في سماء الوطن. هذه الحركة الرائدة التي كان أحد مؤسسيها في بدايات الحرب الأهلية، بقي ناشطاً فيها الى اليوم، إما أميناً عاماً أو أميناً للنشاطات الثقافية أو الإعلام. منها انطلقت شرارة “الحرب على الحرب” بإلانفتاح على سائر المناطق اللبنانية وإعداد المؤتمرات بموضوع الانصهار الوطني وتنظيم المظاهرات الرافضة للحرب الى جانب الاتحاد العمالي العام، والتي بلغت ذروتها في تشرين الثاني 1987 حين قام المتظاهرون بإزالة السواتر الترابية التي كانت تشكّل خطوط التماس بين شطري بيروت الشرقي والغربي. في إحدى هذه المظاهرات، قام بعض رجال السلطة بالاعتداء على عصام خليفة ومحاولة قتله بالخنق وبالدفع من نافذة أحد الأبنية في منطقة المتحف.
لكن اسم عصام خليفة ارتبط بقضية وطنية بغاية الأهمية : موضوع المياه والحدود بين لبنان واسرائيل وبين لبنان وسوريا. فهو منذ سنوات يقدّم للمسؤولين ويعرض أمام المواطنين آلاف الوثائق التي جمعها من مصادر داخلية وخارجية والتي تساهم في مقاومة أطماع العدو ومواجهة تجاوزات الشقيق، وترسّخ القضية اللبنانية على أسس العلم والموضوعية والمواطنية. ولعل كتابه “لبنان المياه والحدود” في جزأين هو من أهم المراجع التى تحفظ حق لبنان في مواجهة حق القوة.
وفي هذا الإطار، تأتي المعركة التي خاضها مؤخراً في مسألة ترسيم الحدود البحرية، حيث لم تبقَ شاشة أو إذاعة أو منبر إلا وصدح فيه صوتُه مندداً بأي تفريط في حقوق الشعب اللبناني، وداعياً للتحرّك من أجل تأمين مصالح لبنان العليا…
هكذا تحوّل عصام خليفة الى رمزٍ … رمز للدفاع عن التعليم والجامعة الوطنية، رمز لنصرة العدالة والحرية والمحاسبة.. ورمز للدفاع عن قدسية الحدود..بعد أن تحولت مواقفه من السيادة، ومن الخط 29 وحدود لبنان وحقوق شعبه إلى بوصلة للبنانيين الشرفاء. من هنا كان من الطبيعي أن يبرز اسمُه كمرشح لرئاسة الجمهورية بعد أن أثبت هذا الرجل أن لا مصلحة خاصة تحرّكه، ولا مكاسب لفئة أو جماعة تستوقفه، بل أن هاجسه عبر نضاله الطويل هو حماية المصلحة الوطنية وحقوق كل اللبنانيين. إنه مقاوم حقيقي آتٍ من وجع الناس ومجسدٌ لآمالهم.
أيها الأصدقاء،
أحد البيانات المرحّبة بترشيح عصام خليفة لرئاسة الجمهورية يبدأ :
“بكل فخر..عصام خليفة”.
ونحن عزيزي عصام نضم صوتنا الى صوتهم ونردد : بكل فخر واعتزاز ..عصام خليفة !
عصام خليفة.. أنت صوت الحق، وضمير الوطن !
وكان الدكتور عصام خليفة ألقى كلمة في يوم تكريمه في طرابلس جاء فيها:
اسمحوا لي ايها الأصدقاء بأن أشكر كل الذين كانوا وراء تنظيم هذا الاحتفال، أشكر القيمين على نادي ليونز طرابلس- فيكتور ممثلا بالاستاذة ” شداقصّاب دبليز” وأشكر الرفيق، ايام النضال الجامعي في سبعينات القرن الماضي،” المحامي سعيد علامه ” و اشكر القيّمين على مؤسسة شاعر الفيحاء” سابا زريق ” الثقافيّة ممثلة بالدكتور ” سابا قيصر زريق”، وأحيّي دورها فيالانماء الثقافي في عاصمة الشمال، و اشكرُ الدكتور و الزميل الأكاديمي في الجامعة اللبنانيّة “اميل يعقوب ” الذي أعرف جيدا دوره الطليعي في خدمة لغة الضاد، و شكري الكبير للدكتور ” جان جبور ” رفيق الحركة الطلاّبية في كليّة التربية أيام عزّها ورفيق المعارك النقابية و الاكاديميّة في رابطة الاساتذة و في مجلس الجامعة اللبنانيّة. والشكر كلّ الشكر لكلّ فرد منكم لأنّكم تجشّمتم مشقة المشاركة في هذا اللقاء رغم الظروف الصعبة.
ايّها الحفل الكريم،
أختصر كلمتي بالنقاط التالية:
مجتمعنا واقتصادنا ودولتنا و مؤسساتنا في خطرودورنا أن نعلن النفير العام.
- دفاعا عن وحدتنا الوطنيّة.
- دفاعا عن وجود وبقاء دولتنا اللبنانية التي بشّرنا رئيسالديبلوماسيّة الفرنسيّة السابق لودريان بأنّها مهددّة بالانمحاء.
- دفاعا عن حدودنا البحريّة حيث تمّ التفريط بثرواتنا الغازيّة والنفطيّة و وحدودنا البريّة سائبة في مرحلة تُصاغ فيها خرائط ُجديدة لمشرقنا العربيّ من قبل الطامعين من الأقربين و الأبعدين وفي وقت يعاني جنوبُنا الصامد من تدمير منهجي على امتداد الأسابيع و الأشهر الماضية .
-
دفاعا عن جوهر الدستور و روح القانون و المؤسسات و محاولات الخروج على المواثيق والأسس التي صاغها كبارنا منذ عقود و هكذا يبقى لبنان بدون رئيس للجمهوريّة و بدون حكومة لهاصلاحيات كاملة و بدون ادارة عامة راعية للانماء.
- استشرافا لمواجهة الكوارث التي يُخطَّط لها كما حصل في مرفأ بيروت و كما يُمكن أن يحصلَ في مطمرِ طرابلس الذي شبّهه الخبيرُ البيئي الشجاع “ريمون متري” في تقرير الى مجلس الوزراء بالقنبلة الخطيرة القابلة للانفجار.
- مواجهة اخطار الهندسات لشعوبنا في العراق و سوريا و لبنان و السودان و خاصة في فلسطين التي تتعرّض لابادة جماعيّة في غزّة و الضفّة تحت سمع العالم و بصره و لاحقا لاسمح الله في الجزيرة العربيّة و الشمال الافريقي و وادي النيل.
- معاناة الأكثرية الكبرى من شعبنا ( 80% تحت خط الفقر) لاحتمال المجاعة وامعان أهل الحلّ و الربط في الهروب منذ خمس سنوات من وضع الحلول الاصلاحية لمواجهة الزلزال المالي المتمادي في تردّداته (سرقة أموال المودعين).
ايّها الحفل الكريم،لن أسترسل في عرض واقعنا المريروالمناسبة تتطلب التطلع الى المستقبل بأمل وتفاؤل، حسبي أن أقول لكملقد أحببت باستمرار و أعجبتُ بأهل طرابلس و تاريخها .
- درستُ عددَ سكانها حيّا حيّا، و دقّقت في اسماء ذكورها الناضجين في الطابو الدفترالعثماني في القرن السادس عشر . توسّعتُ في آليات الضرائب التي كانت تدفعها المدينة و لوائها للخزينة العامرة في اسطنبول
-
دقّقت في صادرات و واردات مرفئها في القرن السادس عشروقد كان أهمّ مرفأ عثمانيّ في شرق المتوسط تأتي اليه القوافل من ايران
(عدد جمال كل قافلة 3000 جمل! )
- رافقت تقارير الدفاتر المهمّة عن أوضاع المدينة والجوار و اطّلعت على سجلات محاكمها الشرعيّة كمصدر هام للزمن التاريخي.
- جمعتُ الوف العرائض و الوثائق من مراكز الأرشيف المحليّة و الخارجيّة حول مواقف النُخَب الطرابلسية في فترة الانتداب وعرفتُ أهميّةَمصفاتِهاالتي كانت تصدّر ثلاثة أخماس (5/3) استهلاكفرنسا من النفط في مرحلة الثلاثينات من القرن الماضي .
- عرفتُ تفاعلَ الريف المسيحي مع أهل المدينة المسلمين قبل فترات التعصّبوالعنف،فزوجتي”ديزي” وُلدت في “حيّ الزاهرية” قبل أن يُضطرَّ أهلُها الى بيع منزلهم و والدُها “المحامي اميل غازي” كان رئيسَ نقابة ألـ ” آي بي سي ” و محاميها المميّز . و نُخبُ المجتمع الطرابلسي كانت تصطافُ في حصرون حيثُ منزل أهلِ زوجتي صيفا،و كانت تلك النُخَبُ تقصدُ”اوتيل السمعاني” حتى أنّ أهمّ عالم ماروني ” يوسف سمعان السمعاني ” وُلد في طرابلس في “حيّ الحصارنة” و هو واضعُ نصوص المجمع اللبناني1736 الذي فرض التعليمَ المجانيّ و الالزامي للذكور و الاناث معا.والسؤال الذي يُطرح دائما في الوجدان، متى نعودُ الى أيام الصفاء و نرسّخ المواطنيّة اللبنانيّة على قاعدة الأخوّة و العدالة و المساواة و الانماء الحقيقي؟
-
عمّقتُ صداقاتي مع نُخَبِ طرابلس الفكريّة و الأكاديميّة والنقابيّة في جامعتِنا اللبنانيّة التيتعاني من نتائج غياب سلطة القانون.
- نسّقت خلال الحروب العبثيّة المركّبة مع الأصدقاء في الرابطة الثقافيّة و المجلس الثقافيللبنان الشمالي و صُغنا معا البيان الثقافي الوطني (6-7-8- أيار 1988 ) الذي كان قاعدة صلبة لتحرّك الهيئات الثقافيّة اللبنانيّة في مواجهة نظام الحرب ومن يقف وراءه.في هذا السياق، أحيي المحامي “حسين ضنّاوي”،و “الدكتورين نوّاف كباره و خالد زياده”كما احيي روح “المهندس رشيدالجمالي” و “الدكتور نزيه كباره”و “الدكتور مصباح الصمد”.
- هذه المدينة الأجمل في شوارعها القديمة و مساجدها و كنائسها و مرافقها الأثريّة العريقة من حقها أن يكون لها المستقبل الواعد من خلال المرفأ الذي يجب أن يُفعّل والمطار الذي يجب أن يُنشأ فورا في القليعات و المعرض الذي يمكن أن يكون له محور نشاط ينشل المدينة من الفقر و الحرمان الى التقدم و الانماء .
-
ايّها الحفل الكريم،
أكرّر شكري لكم و أعتزُّ بأن أكون الى جانب أعلام الثقافة و المبدعين
( فائق الحميصي، والدكتوره الهام كلاّب البساط والأديبة علويّة صبح ).
سنبقى على العهد مدافعين أشداء عن سيادة لبنان و استقلاله وعن حقوق الانسان فيه وفي دنيا العربو سنظلّ أمناء علىالدورالذي أنجزه الأباء و الأجداد : حمل رسالة النهضة والحداثة و الحريــّة في عالمنا العربي الأوسع.