بقلم د.نبال موسى
شاءت الصدف أن أتعرف منذ عدة سنوات عند أحد الأصدقاء الصحافيين على نائب رئيس بلدية مدينة ” لا غارين كولومب” في ضواحي باريس إيف بيرّيه. ثم التقيته مرة أخرى عند الصديق نفسه فدعانا إلى مركز البلدية ليعرفنا إلى رئيس البلدية الطبيب والسياسي والنائب السابق في البرلمان الأوروبي البروفسور فيليب جوفان الذي قدم لنا خلال اللقاء كتاباّ عن المدينة وتاريخها.
والحقيقة هي أنني تصفّحت الكتاب بسرعة وركنته على أحد رفوف مكتبتي ولم أعد إليه منذ ذلك التاريخ حتى الأمس عندما أحببت “تصفية” بعض الكتب غير المهمة بالنسبة إلي، فألقيت نظرة جديدة عليه قبل “الوداع”، فوقعتُ فيه على خبر غريب طريف لم أكن أعرفه. ففي أحد شوارع هذه المدينة الهادئة سكن طالب صيني شاب لم يكن يبلغ من العمر أكثر من ستة عشر عاما، جاء إلى باريس لطلب العلم مع أن المثل يقول أطلبوا العلم ولو في الصين! إنه الشاب الذي أصبح فيما بعد زعيم الصين القوي دانغ كسياو بينغ والذي سيغيّر وجهها ومستقبلها وسياساتها.
في 11 أيلول من العام 1920 سافر دانغ إلى فرنسا مع مجموعة من الطلاب الشباب ضمن إطار برنامج متفق عليه سمي برنامج “الدراسة والعمل”، ووصل إلى مرسيليا نهاية شهر أكتوبر من العام نفسه. وبعد ” تسكّع” مجهول دام حوالي ستة أسابيع وصل دانغ إلى مقر الجمعية الفرنسية ـــ الصينية الواقعة في الرقم 39 من شارع ” لا بوانت” في” لا غارين كولومب” الذي أصبح اليوم شارع “ميديريك” حيث كانت تنتظره هناك الغرفة التي سيقيم فيها. ولقد استعنت ب”عمنا” غوغل فوجدت أن البناية التي سكن فيها لا تزال على ما يبدو كما كانت أيام سكن دانغ.
كانت فرنسا قد خرجت حديثاً من الحرب العالمية المدمّرة، وكان اقتصادها وأوضاعها الاجتماعية في أسوأ حال، ولذلك لم يكن من السهل على طالب آسيوي إيجاد عمل في مثل هذه الظروف تساعده على العيش وإكمال الدراسة. فقد اضطر دانغ بسبب الفقر والجوع إلى القيام بأعمال شتى في مختلف أنحاء فرنسا. فعمل في مدينة ” لو كروزو” في مصانع السلاح المعروفة “شنايدر ـــ لوكروزو”، وفي مصنع للكاوتشوك في مدينة ” مونتارجي” قبل أن يعود إلى ” لا غارين كولومب”.
بقي دانغ في فرنسا ثلاث سنوات أظهر خلالها قدرات شخصية ملحوظة ونشاطا وديناميكية بارزين وأسلوبا عمليا ملفتا للنظر، مما جعله يحتل موقعا معنوياً مهما داخل الجمعية الفرنسية ـــ الصينية. ويبدو ان شخصية دانغ الريادية كانت قد تكوّنت أو بدأت تتشكّل، فقد قرر السفر إلى موسكو عام 1926 حيث تلقّفه السوفيات هناك وتوسموا فيه سمات القيادة فأدخلوه الحزب ودربوه وعلّموه طريق وكيفية الوصول إلى السلطة، فأصبح بعد مسيرة طويلة معروفة لا مجال لذكرها هنا أمينا عاماً للحزب الشيوعي الصيني من عام 1981 حتى 1989 لكنه كان صاحب القرار في البلاد قبل ذلك بسنوات طويلة. ويعتبر كثيرون أن دانغ هو الرجل الذي كان وراء التطور الاقتصادي الصيني وحامل لواء الإصلاح والانفتاح والتغيير الذي أوصل الصين إلى ما هي عليه اليوم.
تفاصيل السنوات التي قضاها دانغ في فرنسا غير معروفة. صحيح أن إعجابه بالماركسية هو الذي دفعه للسفر إلى موسكو، لكن من علّمه في “لا غارين كولومب” ـــ أو خارجها ربما ـــ العقيدة الماركسية مما جعله يشد الرحال إلى موسكو؟
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثنين