بقلم د.نبال موسى
من الذكريات الصحفية واحدة لو كنت استعملت الشريط الذي سجلته خلالها لكنت اطحت بأحد أعمدة أول وزارة شكلها الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران عام 1981وهو ميشال جوبير السياسي الديغولي القوي الذي اعتمد عليه ميتران يومها وعلى بعض الوزراء الشيوعيين للقول بأن وزارته وزارة جامعة تضم أبرز التيارات السياسية الفرنسية في ذلك الوقت. وكانت أوكلت إلى جوبير وزارة التجارة الخارجية ربما لكونه على علاقة طيبة مع العرب أصحاب مليارات البترودولار التي كانت فرنسا بحاجة إلى شيء منها، ولكونه أيضاً ولد وترعرع في مدين مكناس بالمغرب.
بعد أشهر قليلة من تشكيل الوزارة، قرأت أن مجلس الوزراء برئاسة بيار موروا أصدر قرارا يلغي بموجبه حظر التعامل مع اسرائيل ويحث فيه الشركات والمصانع الفرنسية على عدم التقيد بما كان يسمى قانون المقاطعة العربية الذي كان يقضي بمقاطعة كل شركة أو مصنع يصدّر الى الكيان المحتل.
فوجئت بهذا القرار، وقلت في نفسي انه يمثل انقلابا سياسيا على العرب، وتحديا ليس بعده تحد. قلت للأستاذ المرحوم نبيل خوري صاحب ورئيس تحرير مجلة المستقبل التي كنت أعمل فيها في ذلك الوقت إنني سأطلب مقابلة مع وزير التجارة الخارجية ميشال جوبير لاستجلاء هذا الموضوع الخطير فقال أبشر.
أرسلت الطلب الى مكتب الوزير محددا الهدف وذاكرا القرار المذكور آنفاً، واستبشرت خيرا. لكن الاسابيع مرت الواحد تلو الآخر ولا جواب. وبعد أشهر قليلة قرر ميتران زيارة السعودية، وفي اليوم الذي أعلن فيه عن الزيارة عدت الى مكتبي بعد الغداء فواجهتني فورا موظفة الهاتف بالقول ان مدير مكتب الوزير ميشال جوبير يبحث عنك وقد اتصل مرتين ويطلب منك الاتصال به على عجل…
قلت: يا سلام على بني البشر، كنت منذ أشهر بحاجة الى الوزير فلم يكلف نفسه عناء الرد ولو بكلمات قليلة، اليوم هو بحاجة الي ويلهث في البحث عني كي يبث ما في جعبته من الكلام المعسول والعواطف الكاذبة تجاه العرب في مجلتنا التي كانت أهم مجلة توزع وتباع في السعودية ودول الخليج، من أجل تسهيل توقيع الصفقات وكسب المليارات، بينما حكومته تصفع العرب بضربها عرض الحائط بقانون مقاطعة اسرائيل. وأقسمت أن أعلمه درسا لن ينساه !
ذهبت في الموعد المحدد وقال لي مدير مكتبه انني سأحضر أولا مؤتمره الصحفي الشهري في قاعة الوزارة ثم يستقبلني بعد المؤتمر لطرح بعض الاسئلة. عندما سمعت جملة “بعض الاسئلة” فهمت انه سيسمح لي بسؤال أو سؤالين ويناولني الأجوية مكتوبة جاهزة. فنويت على خطة ماكرة. دخلت مع حوالي 20 صحفيا قاعة المؤتمرات وبدأ المؤتمر. وبعد حوالي ربع ساعة رفعت يدي ولم انتظر ان يعطيني الكلام وطرحت السؤال الذي جئت من أجله، لأنني لو طرحته ونحن وحيدين في مكتبه فسوف لن أحصل سوى على جواب بروتوكولي سخيف. قلت: حضرة الوزير، من المعروف عنك انك رجل ديغولي وعلى علاقات جيدة مع العرب، كيف يصدر هذا القرار بعدم الاكتراث بالمقاطعة العربية للشركات والمصانع التي تتعامل مع الكيان المحتل لفلسطين وانتم ذاهبون الى السعودية تطلبون التوقيع على صفقات كذا وكذا… هذا القرار هو انقلاب على الدول العربية ومؤشر عداء واضح من العهد الجديد.
تجمد ميشال جوبير وكأن على رأسه طير، وصمت ونظر في الأرض وطال صمته لأكثر من 30 ثانية خلناها دهراً، وأخذ الصحافيون ينظرون إليّ بنظرات مختلفة المعاني، وأحسست بان سؤالي قد أحرجه بالفعل إحراجاً كبيرا، حتى أنني أنا شخصيا شعرت بالإحراج تجاه هذا الموقف غير المسبوق. ثم رفع جوبير رأسه وقال: ” لا أدري اي رجل سياسي سئل يومأ متى سيتم استرجاع منطقتي الألزاس واللورين (وهما منطقتان كانتا قد سلختا عن فرنسا) فأجاب: انه سؤال مهم”. وانتهت هكذا إجابة جوبير على سؤالي !! ثم توجه للصحفيين قائلا: نتابع الرد على الاسئلة.
انتهى المؤتمر وذهبنا إلى مكتب الوزير، وما إن دخلنا حتى بادرني بشيء من الغضب: كيف تسألني هذا السؤال أمام كل هؤلاء الصحافيين؟ ألم تلاحظ وجود مندوب : الوكالة اليهودية ومندوب ها آرتس؟ ما كان عليك ان تسألني هذا السؤال أمامهما… وأردف: أنا لم أوافق على هذا القرار، لكن الرئيس ميتران يريده. قلت: معالي الوزير أنا جئت لطرح هذا السؤال بالذات، هل يمكنني أن أقول إنك ضده؟ فجن جنونه مرة أخرى وأومأ الى مدير مكتبه الذي ناوله ورقة عليها أجوبة على اسئلتي تبيّن فيما بعد أنها أجوبة “خشبية” وهو ما كنت توقعته.
كنت أحمل في يدي آلة تسجيل صغيرة ودفترا. وكنت ضغطت على زر التسجيل منذ دخولي مكتب الوزير ولم ينتبه أحد الى ذلك وتم تسجيل كل ما قاله لي ميشال جوبير ولا زلت أحتفظ بالتسجيل حتى الآن.
لم يشأ المرحوم نبيل خوري نشر ما حصل فعلا وما تم تسجيله خفية، كي لا يفسد زيارة الرئيس الى السعودية خصوصا وان المجلة كانت ستصدر وتوزع في الاسواق قبل يوم او يومين من وصول الرئيس ميتران الى الرياض ومعه طبعا ضمن وفده الضخم وزير التجارة الخارجية ميشال جوبير. تأسفت لأنني لم أتمكن من تلقينه الدرس المذكور والإطاحة به، لكنني من دون شك سممت يومه، وأنا متأكد من أنه لم ينسَ هذه الحادثة طيلة حياته. ولو كنت سرّبت الشريط لكانت قامت الدنيا ولم تقعد في الإعلام الفرنسي الموالي للكيان المحتل، وهو قوي جدا، ولكان ميشال جوبير قد طار بين ليلة وضحاها.
تسألون ربما عن نتائج الزيارة؟ عقود بمئات الملايين. ولم تستنكر اية دولة عربية القرار المذكور. هكذا نحن العرب: نُداس ونقول شكراً.
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثنين