إذا كان الفنُّ، بالنسبةِ لبعضِهم، مجرَّدَ أداةٍ لتمضيةِ الوقت، فهو، بالنسبةِ لِيَقِظي الرّوح، حالةٌ من تجلّياتِ الفَوق، تفيضُ وتُقبَل. ولأنّ الفنَّ كذلك، قيلَ إنّ إدراكَه صعب، يستلزمُ تَحَملَ مشقّة، ولا يستطيعُ بلوغَ عالَمه، إلّا مَنْ يستحقُّ من مالِكي العبقريّةِ الفنيّة.
عُمَر ميقاتي أنموذجُ الفنِّ المُتوارَث، والفنِّ المُبدِع، معاً، وبِقَدْرِ ما هو خفِيٌّ في التَّباهي، والإدّعاء، بِقَدرِ ما هو نَجمٌمُرتَقٍ في الأصالةِ والإبتكار. هذا الرَّجلُ، ابنُ أبيهِ نِزار، أخذَ عنه وطَوَّر، إرتبطَ به واستقلّ، نَهَجَ نهجَه وانفتح، وبَقَدْر ما كان والدُهُ حيَّاً فيه، يستحضرُهُ بعدَ قَطعِ البعيدِ إليه، بِقَدْرِ ما اجتهدَ للتجدّدِ في تجربتِهِ الأدائيّة، بجدٍّ وخَصب، وكأنّه يولَدُ باستمرار. وما أشبهَ عُمَر وأبيه بما قالَه ” ابنُ رشيق ” في العلاقةِ بين الأجيال : ” مَثَلُ القدماءِ والمُحدَثين، كمَثَلِ رَجُلَين : ابتدأَ الأولُ بناءً فأحكمَه، وأتقنَه، وجاءَ الثّاني فنقشَهُ وزيّنَه”.
لقد شَغَلَ الفنُّ عُمَر ميقاتي، لأنه اعتبرَه قضيّة، لذلك، لم يكنْ للفنِّ وجودٌ مستقلٌّ عن عُمَر الفنّان، فوعاهُ لذّةً يرتشفُها من ثُغورِ موهبتِهِ، منذُ أن كانَ فيها برعماً، وحتى النُّضج، من دونِ أن تتساقطَ أوراقُهُ، بالرَّغمِ من خريفيّةِ العُمْر. إنّ هذا التّحليقَ لم يَخُنْ لِعُمَر عهداً، بل كان، معه، وخلالَ مسيرتِهِ الهضّابة، على أتمِّ وفاق، فلم يبدأْ بتَزحيفِ غلائلِهِ السّوداء الى فُتحاتِ نور عُمَر، لذلك، لم نلحظْ، في فضاءِ عُمَر الفنّي أيَّ سماءٍ مُكفَهرّة، قاتمةِ الأفق. وهكذا، لم يُبَعثَرْ فَجرُ عُمَر الفنّي، أو يمِلْ الى الغروب…
لقد سقانا عُمَر، في إطلالاتِهِ، وأعمالِهِ الكثيرة، في الإذاعة، والمسرح، والسينما، والتلفزيون… كؤؤساً من دهشةٍ، وإعجابٍ، فلم نُسقِطْ كلمةً واحدةً من التّقدير، لأنّنا وجدنا عُمَر، في حقلِ الأداء، غرسةً مورقةً في كلِّ حين، وكتاباً قَيِّماً لا يشيخ، ينبغي تعميمُهُ على مدارسِ التّمثيل، ليتغذّى طلّابُ المعاهدِ، و” مُمَثِّلو ” اليوم، من تجربةِ عُمَر الفريدة، في غناها، وأصالتِها، وحجمِ قيمتِها، وشُحناتِها العميقةِالتّأثير، بِما فيها من إحساس، وصدقٍ، وقدرةٍ على نَقلِ الحالةِ الى المُشاهِد بعيداً عن أيِّ تَسَطُّحٍ أو ركاكةٍ، أو صنعة.
هذا الكبيرُ اللّامعُ والثّاقبُ الحضور، والطّليقُ الحسِّ بدونِ نبرةٍ حادّة، يحملُ، دوماً، روحاً فيّةً لها موقع، ولم يكتفِ بالمشاركةِ الخَجولةِ في الظّهورِ المَشهديّ، لكنّه انخرطَ في بناءِ حالةٍ فنيّةٍ حرصَ على أن يكون لها مدًى كافٍ، في مضمونِها الإنسانيّ، دفاعاً عن الحريّة، والحقيقةِ، والحقوق، وآمالِ الناسِ في خيرٍ مقصود، وحياةٍ لائقة، ومستقبلٍ ناهض. إنّ الفنّ، مع عُمَر، هو وحدةٌ كيانيّةٌ تتّصل بالإنسان، والوطنِ، وقضايا الحقّ، والإنسانيّةِ جمعاء، فلماذا اختزالُهُ بمضمونٍ ضيّق، من دونِ رفعِهِ الى مستوى توعيةِ الناسِ لتَذَوّقِ العملِ الفنّي، من ناحية، وللإقتناعِ بالغاياتِ المحمودةِ، إجتماعيّاً وأخلاقيّاً،والتي يقصدُ إليها العملُ الفنيُّ نفسُهُ، من ناحيةٍ ثانية.
إنّ إطلالاتِ عُمَر ميقاتي هي ” صحونٌ ملوَّنة “، لا ترتدي قوالبَ مكرَّرة، بِقَدرِ ما ” تخرجُ من آفاقٍ الى آفاق”، كما يقولُ رئيف خوري. لذلك، لم نقفْ على صراعٍ بين القديمِ والجديد، والشّائخِ والفَتِيّ، مع عُمَر ميقاتي، فقد بقي الفَتِيُّ، معه، فَتيّاً، والنّامي نامِياً، متلازِمَين مع ما حملَ من تراثِهِ الرّاقي، ما يدفعُ، حُكماً، الى النّظرِ بعينِ الجلالةِ الى المُتقَدِّمِ، معه، والمُتأخِّر، معاً، لأنّ عُمَر أعطى لكلٍّ منهما حظَّه، وأبدَع.من هنا، يُخطئُ مَنْ يَحسبُ أنّ رَعيلَ الأقدمين، لم يَعُدْ أسلوبُهم يتمشّى مع حاجةِ تيّارِ الحداثة، ومع معايشةِ الجديدِ في الحياة.
لم يكنْ عُمَر هامشيَّ الخَطْوِ في الفنّ، إنّه المثقَّف مؤسّس المسرح الوطني مع ” شوشو “، و” فرقة الأنوار “، والعارِفُ بمقتضياتِ الأداءِ التّمثيلي، والإخراج، وقد عايَنَ مسيرةَ المسرح، والتّمثيل، فوجدَها عبئاً فوق عبء، فلم يرضَ بغَفلةٍ عنها، ولم يحتملْ هلهلةَ المواضيعِ التي أُدرِجَت في السّياقِ التّمثيلي، لذلك، اعتذرَ عن قَبولِ الكثيرِ من العُروضِ التي قُدِّمَت له. فكما التّدريسُ رسالة، لا مهنة، كذلك الفنّ، فعُمَر الرّاقي هو صاحبُ أَنَفَة، يرفضُ الإنصياعَ لعامِلِ المالِ، وإغراءاتِهِ، لإذلالِ الفنّ، وأصحابِه، لذلك، عملَ بجهدٍ، لكي يبقى الفنُّ فنّاً، فقط.
عُمَر ميقاتي ذو الطَّبعِ السَّمِح، والأداءِ ” البَليغ “، والسَّلِسِ في تعاطيهِ العامِ والفنّي، يجمعُ في شخصِهِ الفِعلَ الفنيّ، والإنسانيّ، ويهندسُ لإطلالاتِهِ لتكونَ مَشاهدَ مُرَونَقَةً تهزُّ الأعماقَ، وتحرِّكُ الإدهاشَ، وتبقى في الأذهان،وتَخلدُ في ضميرِ الوطن.