انعقدت الندوة الثانية من مسار الاقتصاد والاجتماع في الجامعة الأميركية، بعنوان “إعادة بناء اقتصاد منتج للبنان الجديد”، في اطار فعاليات مشروع “لبنان في قرنه الثاني: رؤية مستقبلية“، تضمنت ثلاث جلسات متتالية بإدارة مديرة الأبحاث الاقتصادية للشرق الأوسط في مصرف جفريزعلياء مبيض التي اعلنت أن “أي اقتصاد منتج يبنى على ثلاثة مقومات: أولها الموارد المتاحة، ونعني بها رأس المال البشري والمالي والبنى التحتية، وقد خسرنا بسبب الأزمة جزءا كبيرا من مدخرات اللبنانيين وهاجر عدد من الشبان ولكننا ما زلنا نملك مخزونا كبيرا من اليد العاملة المنافسة التي نستطيع أن نعتمد عليها، لكن البنى التحتية قد أصبحت للأسف مترهلة”.
وقالت:”اما ثانيها، فهي وجود سياسات عامة تعزز التنافسية لتجعل من الاقتصاد المنتج مستقطبا للاستثمار الخاص الذي يعاني في خلال السنوات العشرين الماضية من تراجع مستمر في لبنان، وهذه السياسات هي ليست اقتصادية فحسب، بل هي أيضا في مجالات البنى التحتية والطاقة ومنظومة الأمن التي ستؤسس لمناخ مشجع على الاستثمار، وثالث هذه المقومات هو قدرتنا على التأقلم مع المتغيرات العالمية والإقليمية التي من المفترض أن تكون قوية بفعل الاغتراب اللبناني الذي لا يملك فقط رأس المال البشري والمالي المهم، ولكنه يملك أيضا شبكة العلاقات التي يستطيع أن يستثمرها لإعادة رفد عملية التحول من اقتصاد الريع إلى اقتصاد الإنتاج”.
وختمت “هذه المقومات الثلاثة هي اليوم غير مستغلة بسبب استفحال الأزمة ورفض معالجتها وغياب الرؤية لدى المنظومة السياسية المتحكمة بالبلد.”
ثم دار نقاش حول “مقومات الاقتصاد المنتج واحتياجاته”، حيث تحدث الاقتصادي في البنك الدولي الدكتور وائل منصور عن “الفرق ما بين الاقتصاد المنتج والاقتصاد الريعي، فالاقتصاد الريعي هو الذي يعتمد على الدخل الزائد الذي يحقق دون بذل جهد أو تكلفة إنتاج إضافية، وينشأ عادة عند وجود حالات من الاحتكار أو الامتيازات الممنوحة لفئة دون أخرى، بينما الاقتصاد الإنتاجي هو اقتصاد يركز على إنتاج السلع والخدمات بكفاءة وفعالية ويتميز بأنه يحقق النمو المستدام ويخلق فرص العمل ويعتمد على الابتكار والتطور التكنولوجي والمهارات، والأهم أنه يعتمد على المنافسة”.
وقال:”إن اعتبرنا أن النموذج الريعي الذي كان موجودا في لبنان قد انتهى، ومن أجل بناء اقتصاد تنافسي منتج، ولأن السوق اللبنانية صغيرة، نحن بحاجة إلى تصدير هذه السلع والخدمات وليس تصدير العمالة واليد العاملة الماهرة، لذا يجب أن نضع لأنفسنا عدة أهداف، منها إعادة حجم الاقتصاد إلى ما كان عليه في العام 2018 أي 55 مليار دولار، بعد أن تراجع في الأزمة إلى أقل من النصف أي 23 مليار دولار وهو الرقم الذي كان عليه الاقتصاد في العام 2006، أي بفارق 17 عاما، لذا يجب أن يكون الهدف إعادة حجم الاقتصاد اللبناني إلى ما قبل الأزمة في العام 2040، وأن يحقق نسب نمو توازي نسب النمو في الدول ذات الدخل المتوسط الأعلى، وذلك على ركائز متينة متمثلة بإنتاج وتصدير أكثر واستهلاك أقل”.
وأشار إلى “أننا إن أردنا أن نخلق هذا الاقتصاد المنتج، نحن بحاجة إلى سياسة مالية تحفز الاستثمار وتضع ضريبة على الريع أعلى من الضريبة على الأجر، وإلى إنفاق حكومي مركز على قطاعات تساعد الإنتاج مثل الكهرباء والإنترنت والتعليم، وإلى سياسة نقدية تنهي الاحتكارات المصرفية لتمويل الاقتصاد وتدخل لاعبين جدد إلى السوق اللبنانية، وتضع حدا لتهور مصرف لبنان بدعم قطاعات وسياسات نقدية أوصلتنا إلى الإفلاس، وإلى إعادة النظر في الاتفاقات التجارية الخارجية وتفعيل الاتفاقات التي تشمل القطاع الخدماتي، وإلى بيئة أعمال تنافسية عبر إلغاء كل القوانين الاحتكارية مثل قانون الوكالات الحصرية وسن قوانين لمكافحة الاحتكار مع مؤسسات رقابية ذات كفاءة لتطبيقها مع هيئات ناظمة لإدارة القطاعات وتحفيز القطاع الخاص للدخول ومشاركة الدولة في الاستثمار، ودعم الشركات الناشئة”.
وختم:”كل هذا يمكن أن يتحقق في لبنان بوجود الإرادة السياسية والتغيير السياسي والمؤسسات القادرة على التطبيق، وبذلك نستطيع أن نعيد الاقتصاد إلى سابق عهده مع نمو مستدام وبطريقة متينة.”
أما الجلسة الثانية فكانت حول “الصناعة الوطنية” تحدث خلالها عضو مجلس إدارة جمعية الصناعيين اللبنانيين بول أبي نصر عن “موضوع البيئة الحاضنة التي تعد أساسا في نظامنا الليبرالي، والتي يجب أن تسهل الطريق للشركات والقطاع الخاص لينطلق ويبدأ بالنمو من تلقاء نفسه”.
وقال:”لذا يجب أن نتبنى طروحات تناسب طبيعة لبنان وبخاصة في ما يتعلق باللامركزية الإنتاجية والصناعية، كما يجب أن نجد صلة الوصل بين الإبداع الفردي والقطاع الصناعي لكي يعملا بتناغم وتكامل لتصل المنتجات والأصناف الإبداعية إلى السوق. من هنا يجب التركيز على كيفية خلق البيئة الحاضنة على المستوى التربوي، وعلى مستوى البنية التحتية، التي يجب أن تكون في الوقت نفسه مطابقة وملائمة لطبيعة لبنان، فنحن لا نستطيع أن ننشئ شركات كهرباء ومصانع كبيرة، لأن طبيعة لبنان السياسية والجغرافية غير مناسبة لذلك، لذا نحن بحاجة إلى نظام لامركزي بامتياز كي يكون النمو منفضلا وكي يكون الحل متجزئا”.
وختم:”هذه هي طبيعة لبنان التي يجب أن نسير معها لا ضدها، أي أننا يجب أن نوجد الحلول حتى وإن لم تكن هي الافضل”.
وتمحورت الجلسة الأخيرة حول “الصناعة الزراعية بين الغذاء والدواء”، وتحدث فيها مدير الأبحاث في مؤسسة Triangleنزار غانم مشددا على أن “الاقتصاد الزراعي هو جزء مهم من الاقتصاد اللبناني، فنحن نستطيع التصدير إلى دول عديدة كما أن هناك إمكانية هائلة لتحسين هذا القطاع”.
وقال:” المشكلة اليوم، تكمن في أن استثمار الدولة في الزراعة هو فقط 0.5 بالمئة من الموازنة العامة، لذا نحن بحاجة اليوم إلى إصلاحات كبيرة في سوق الأدوية مثلا، وكذلك كل ما يخص القطاع الزراعي في لبنان يجب أن يتحسن، كما يجب تفكيك كل الكارتيلات في هذا المجال، وأن تكون للبنان سياسة تجارية واضحة من أجل تحسين منتجاته للدخول إلى الأسواق الأوروبية أو الأميركية أو غيرها”.
وختم:” لذا فإنه من غير المقبول ألا يكون هناك تحسين في الجودة العامة وضبط للمرافئ وإصلاح شامل للتعاونيات الزراعية غير القادرة حاليا على تحسين الإنتاج المطلوب، وغيرها الكثير من الأمور، إذ ليس هناك جدية اليوم عند الدولة لتطوير هذا القطاع، علما ان القطاع الزراعي اليوم يملك إمكانات كبيرة تضاهي تلك الموجودة في إيطاليا أو تركيا على سبيل المثال.”