بقلم الدكتور نبال موسى
في سنوات الحصار الطويلة والصعبة على العراق، اضطرّت وزارة التربية العراقية إلى طبع أعداد كبيرة من الكتب. ولم أعد أذكر ما هو السبب الذي جعل الوزارة تتجه نحو بيروت لطباعة هذه الكميات، ربما لعدم التمكن من استيراد الورق بسبب ذلك الحصار اللعين الذي كان مفروضاً عليه، أو ربما لأسباب أخرى.
كانت كمية الكتب المطلوبة طباعتها كبيرة لدرجة أن أحداً في بيروت ــــ عاصمة الطباعة العربية ــــ ( بالإذن من أصدقائي المصريين!) لم يستطع تلبية رغبة الوزارة بالمواصفات المطلوبة والوقت المطلوب. لقد كان ذلك فوق طاقة جميع دور النشر وكبريات المطابع.
أخبرني السيد جورج عازار الذي كان يملك في باريس مطبعة ومجلة إقتصادية أوكل إليّ رئاسة تحريرها، أنه علم بموضوع كتب الوزارة العراقية ووجد حلا لطباعتها لم يفطن إليه أحد. وهو كان قد عمل طويلا في مطابع صحيفة النهار اللبنانية واكتسب خبرة طويلة في هذا المجال. فقد وافق على العقد وسافر إلى بيروت، وأخذ يوكل جزءاً من الكتاب إلى مطبعة، والجزء الآخر إلى مطبعة أخرى وهكذا…حتى استطاع طبع جميع الكتب المطلوبة في الوقت المحدد، وأنقذ الوزارة من ورطة كبرى ونتائج وخيمة، قبل أسابيع قليلة من بدء العام الدراسي، وكسب من هذه العملية على حد قوله مائة ألف دولار دفعت بشيك مصرفي.
كان العراق في تلك الأيام، وبسبب الحصار، يقتصد إلى أقصى الحدود في العملات الصعبة لدرجة أن القانون العراقي في ذلك الوقت كان ينزل حكم الإعدام بكل من يحاول إخراج الدولار من البلاد بغير وجهة حق.
ومرت عدة أسابيع وإذا به يتلقى على عنوان شركته في باريس شيكاً جديداً بالقيمة نفسها ولقاء العمل نفسه. فدُهش للأمر واحتار وخاف. فاتصل بالسفير العراقي في باريس وكانت قد نشأت بينهما مودّة وأخبره بأن الشيك وصله مرتين وأنه يريد إعادته، فما كان من السفير إلا أن بادره بأن يحتفظ بالشيك لنفسه وأن لا يتكلم في هذا الموضوع مع أي إنسان، لأن الخبر لو انتشر أو لو أعاد الشيك إلى الوزارة فإن الإعدام سيكون من نصيب أكثر من شخص ومسؤول. وهكذا كان، ونجا كثيرون في العراق من الإعدام من دون أن يدروا.
وحكى لي أحد “نجوم” إذاعة مونتي كارلو العربية أيام عزّها المفقود أنه دُعي ذات يوم لزيارة بغداد من قِبل وزارة الإعلام، واستقبل استقبالاً حافلاً إذ كانت له شعبية كبيرة هناك حيث أن الإذاعة كانت شديدة الانتشار في العراق قبل ظهور وانتشار الاذاعات الخاصة…قال: لم أزر مسؤولا أو مؤسسة أو دائرة إلا وكان مغلف ينتظرني وفيه رزمة من الدولارات. كنت أحاول أن ارفض نظرا لظروف البلد في ظل الحصار، لكن الكرم العراقي كان يجبرني على القبول.
ثم انتهت الزيارة وحان موعد السفر وصعدت إلى الطائرة. وما إن جلست في مقعدي حتى سمعت صوتاً ينادي: الأستاذ فلان الفلاني! فوقفت. فقال لي: تفضل معي. ومشى. لحقت به وأنا أرتعد خوفاً، وظننت أن المخابرات جاءت تعتقلني بسبب الدولارات التي أُخرجها من البلاد، وأن مصيري ليس سوى الإعدام حسب القانون. لا أعرف كيف نزلت سلّم الطائرة لأن الوهن كان قد تملّك ساقيّ وركبتيّ. لكنني فوجئت عند أسفله بوجود مدير مكتب الوزير الذي أخذني جانباً ومد إليّ مغلّفاً فيه رزمة من الدولارات، فقلت بعفوية وشيء من الخوف: لا، لا، لقد تلقيت هدية من الوزارة! فأجابني: نعم، ولكن هذا من معالي الوزير شخصياً.
قال صديقي: فأخذت المغلّف شاكراً واستعدت قوة الوقوف على رجليّ، وعدت إلى الطائرة يغمرني فرح كفرح الذي نجا من …الإعدام.
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثنين