بقلم الدكتور نبال موسى
بعد تسعة وعشرين عاماً مضت، لا زلت أتساءل هذا السؤال: من هو في الحقيقة ذلك الرجل الذي شاءت الصدف أن أتعرّف عليه في العام 1994 لعدة أسابيع؟ هل كان بالفعل رساماً كما كان يظهر؟ أم أنه كان مجرد تاجر لوحات؟ أم كانت له يا ترى صفة أخرى مخفيّة عليّ على الأقل؟ أم أنه كان كل هذه الصفات في وقت واحد وهذا ما أرجّحه؟
فكيف أن فنانا لا يلتقي إلا بجنرالات وقادة حرب ورجال أمن على مستوى رفيع؟ يتناول الغداء مع قائد القوات الفرنسية في حرب تحرير الكويت ويتناول العشاء مع مدير عام الانتربول؟ وكيف ولماذا يجلس براحة وانشراح مع الجنرال نورمان شوارزكوف قائد القوات الأميركية في حرب تحرير الكويت ويلبس قبعته ذات النجوم الأربع، لا بل يحتفظ بها كهدية؟ ولماذا اختفى فجأة ولم أعد أعرف عنه أي شيء؟ وماذا حلّ بالثلاثمائة لوحة التي رسمها والتي تمثّل حرب التحرير المذكورة؟
كنت في ذلك العام رئيساً لتحرير مجلة “أسرتي” الكويتية التي أعدتُ إصدارها من باريس إثر توقفها بعد غزو الكويت. وشاءت الظروف أن زميلاً كان مراسلاً لمجلة عربية تصدر في لندن قد التقى برسام بريطاني من أصل إيطالي كان في صدد إنجاز “ملحمة” فنية تتمثّل في حوالي ثلاثمائة لوحة ضخمة تجسّد حرب تحرير الكويت والشخصيات التي شاركت فيها أو كانت وراءها. فاتصل بي الزميل المشار إليه وسألني عما إذا كان يهمني إجراء مقابلة صحفية مع هذا الفنان حول هذا الحدث الضخم، كوني أدير مجلة كويتية، فرحّبت. وهكذا دعاني أندرو فيكاري، هذا إسمه، إلى مدينة “نيس” جنوب فرنسا حيث محترفه الكبير ولوحاته ذات الأحجام الهائلة لإجراء المقابلة هناك ورؤية اللوحات.
سافرت إلى نيس في كانون الثاني 1994 فاستقبلني في المطار سكريتيره الخاص الذي عرفت فيما بعد أنه كان صحفيا في جريدة الفيغارو الفرنسية، وذهبنا الى المحترف حيث استقبلني أندرو استقبالاً حاراً ولم يدخلني إلى المحترف بل قال إن وقت الغداء قد اقترب، فلنذهب للغداء. ذهبنا إلى فندق فخم خارج “نيس” اسمه “الفندق الكبير” حيث اعتاد أن يتناول طعامه، وأخبر “الشيف” الذي جاء يستقبلنا مرحّباً أنه يصطحب ضيفاً لبنانيا. فقال لي “الشيف” إن صاحب الفندق لبناني وهو روبير معوّض، وكانت بيدي ساعة ماركة بوم ومرسييه أهداني إياها صاحب محلات المجوهرات الشهير روبير معوّض إثر مقابلة كنت أجريتها معه قبل سنوات، فأريته الساعة وضحكنا للمصادفة الغريبة. وعذراً لو أطلت عليكم قليلا فلا بد أن أقول إنني في ذلك الغداء شربت اطيب نبيذ في حياتي وهو من شاتو إيشوزو. وقد فتشت فيما بعد واكتشفت أن ثمن الزجاجة يساوي راتبي الشهري في ذلك الوقت، ولا يُنتج منها سوى 5 آلاف زجاجة سنوياً، وهي محجوزة سلفا لسنوات.
عدنا بعد الغداء إلى المحترف الذي فاجأني الدخول إليه: بهو واسع جدا وسقف عالٍ ومئات اللوحات الضخمة التي عُلّقت هنا وهناك على الجدران، والتي منها ما تجاوز الستة أمتار طولاً ً وعرضاً لدرجة أنها تحتاج إلى رافعة للوصول إليها. بعد الجولة، زوّدني أندرو بعدد من الصور للوحاته كما لشخصيات عربية وأجنبية سياسية وعسكرية لا يفهم المرء ما علاقتها بالفن والفنان، وما الذي جاء بها إلى هذا المكان! بالطبع، سألته عن علاقته بكل هؤلاء وأولئك فقال إنهم أصدقاء، ولم أشأ التمادي في التفاصيل كوني رجلاً غير حشري في المسائل الشخصية. لكنني رحت أتساءل في قرارة نفسي: ما الذي جاء إلى هذا المكان باللواء الأمير خالد بن سلطان؟ والجنرال ميشال روكجوفر قائد القوات الفرنسية في حرب تحرير الكويت؟ وما الذي جاء بالأمير ألبير أمير موناكو؟ وما الذي جعل أندرو فيكاري يلتقط صوراً حميمة مع الجنرال شوارزكوف قائد القوات الأميركية الذي قدّم له قبّعة الجنرالية ذات النجوم الأربع؟ وكيف سُمح له بالصعود إلى طائرة حربية مقاتلة في عز الحرب لالتقاط صورة تذكارية؟ وماذا كان يفعل هناك؟ من هو هذا الرجل يا ترى؟ ثم، هل يستطيع رجل أن يرسم وحده ثلاثمائة لوحة من هذا الحجم أم أن هناك من يرسم معه أو له؟
المهم، أجريت المقابلة ونُشرت في شباط 1994 وكان أندرو سعيداً بها كون مشروعه وصل مباشرة إلى الكويتيين حكومة وشعباً عبر مجلة كويتية واسعة الانتشار في البلاد.
بعد فترة قصيرة من صدور العدد، جاء أندرو إلى باريس ودعاني إلى الغداء مع سكرتيره الخاص في مطعم الفندق الفخم ذي النجوم الخمس الذي اعتاد الإقامة فيه وهو فندق “موريس” وتوطدت العلاقة بيننا. كان يبدو رجلا ميسوراً، وقد فهمت من سكريتيره بشكل غامض انه قبض خمسة ملايين دولار من السعودية لقاء تنفيذه هذه “الملحمة” الفنية الكبرى، وانه ينتظر المزيد لأن التكاليف فاقت التوقعات الأولية، لكن المفاوضات متعسّرة على ما يبدو.
على مدى عدة أسابيع، كان أندرو فيكاري يغادر باريس ثم يعود اليها ليبقى عدة أيام. وكان كلما عاد يتصل بي ونلتقي ونتناول الغداء تارة مع نائب أو شخصية فرنسية سياسية رفيعة وطوراً مع مدير أمن أو شرطة، حتى أنه دعا مرة إلى الغداء رئيس “بوليس البوليس” وهي الجهة التي تحقق في الدعاوى والقضايا المقامة ضد البوليس الفرنسي نفسه، ومرة أخرى مديرة أمن مطار شارل ديغول… ولا أدري كيف كان يعرف كل هؤلاء الناس!؟ وكان يحدثني أحياناً عن فلان وعلّان من الأمراء السعوديين الذين عرفهم عن قرب، وعن مدينة الرياض وقاعة الملك فيصل المعروفة التي رسم لجدرانها 60 لوحة تروي تاريخ المملكة…
في أحد الأيام، قال لي: غداً أدعوك لتناول طعام العشاء عند سفير الصين في باريس. وبالفعل تناولنا في منزل السفير الصيني في “نويّي” عشاء كان بالنسبة إليّ أفضل طعام صيني أكلته في حياتي. وفي أحد الأيام أيضاً أقام وليمة بمناسبة عيد ميلاده حجز لها القاعة الكبرى في فندق موريس وكنت واحدا من المدعوين، وكان إلى الطاولة الجنرال ميشال روكجوفر والأمين العام للإنتربول وأمين عام مدينة سان بطرسبورغ الروسية ونواب فرنسيون ومدير عام أحد أكبر المصارف الفرنسية وشخصيات أخرى لا أعرفها. وفي ذلك العشاء شربت أطيب نبيذ أبيض في فرنسا، ذلك الذي قال عنه الأديب الكبير ألكسندر دوما: ” هذا النبيذ لا يُشرب إلا والشارب جاثياً على ركبتيه خشوعاً، وكاشف الرأس احتراماً “، إنه نبيذ “بولينيي مونراشيه”.
كان حظي جيداً لأن مكاني كان إلى جانب الجنرال روكجوفر الذي كان قد تقاعد منذ أشهر قليلة والذي أخبرني ببعض الأمور والأسرار عن حرب تحرير الكويت، ووعدني بأن يعطيني مذكراته لأترجمها إلى العربية، لكنني لم أتابع هذا الموضوع، ولا أدري الآن إن كان قد كتبها أم لا. ومما أخبرني إياه أن صد الهجوم العراقي المشهور على مدينة الخفجي الحدودية بين الكويت والمملكة وإخراجه منها لم يكن على أيادي الجيش السعودي كما ذكرت وسائل الإعلام، بل قامت به قوات الحلفاء. لكننا رفعاً لمعنويات السعوديين ـــ كما قال ـــ دعونا اللواء خالد بن سلطان ليصعد إلى ظهر دبابة والتقطنا له الصور وأرسلناها لوكالات الأنباء!
ومرت الأيام، وفي أحدها قال لي أندرو إنه إذا لم يحصل على المبلغ المطلوب لإكمال “الملحمة” الفنية فإنه سيجلب اللوحات كلها في شاحنة ويفرغها في ساحة الكونكورد ويشعل النار فيها. وبعد أسابيع قليلة من ذلك اختفى أندرو فيكاري ولم أسمع عنه أي شيء منذ ذلك التاريخ. ولا يزال السؤال يتردد في خاطري: من هو حقيقةً أندرو فيكاري؟
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثنين