في بداية العام 1996، إتصل بي في مكتبي في مجلة “تجارة ومال” التي كنت أديرها في باريس شخص لا اعرفه اسمه يوسف الحاج، وطلب أن يلتقي بي للحديث في موضوع اقتصادي مهم. التقينا في احد المقاهي وأخبرني أنه رجل أعمال لبناني كان يموّل مجلة اقتصادية في لبنان نسيت اسمها وانه اضطر لمغادرة لبنان لأسباب أمنية، ويود إصدار مجلة اقتصادية من باريس أو كتابة بعض المواضيع الاقتصادية في مجلتنا.
كان رجلاً لطيفاً ومهذباً، قصير القامة،”مربوع” البنية، بيده سيغار كوبيّ بطول ذراعه. وكان لا بد من لقاءات أخرى للبحث في ما عرضه، فالتقينا مرة ثانية في شقته الفاخرة في الحي السادس عشر الفاخر، وتوطدت العلاقة بيننا. وذات يوم دعاني إلى العشاء في مطعم “الدار” وفتح لي صدره وأخبرني قصة حياته وسبب لجوئه إلى باريس بعد حياة حافلة بالنشاط والعمل في لبنان وخارج لبنان، وسأروي على لسانه بعض الأحداث مما بقي في الذاكرة.
قال: كسبت الكثير من المال في إفريقيا وفي تجارة “اليوريا” (أحد مشتقات النفط)، وعدت إلى لبنان في الثمانينات لأستقر فيه ومعي 100 مليون دولار حيث أسست مصرفاً هو بنك التجارة الخارجية الذي كان يومها البنك الوحيد الذي يملك 14 فرعاً في لبنان، كما أسست مدرسة للطيران في بيروت وبدأت العمل في النقل البحري، فاشتريت باخرتين كانتا تقدمان خدمات مهمة لنقل البضائع من والى لبنان في عزّ الحرب الأهلية. وكانت الأمور تسير على ما يرام وكان فؤاد السنيورة (الذي أصبح فيما بعد رئيساً للوزراء في لبنان) مديراً لأحد فروع مصرفي.
كنت أسكن في بيروت في قصر جميل في الأشرفية، وكان لي منزل آخر في إحدى التلال المطلة على المرفأ. وكانت الميليشيات المسيطرة على مكان سكني تطالبني من حين لآخر بمبالغ مالية مساهمة في “المجهود الحربي”، وكنت أفعل. لكن المبالغ المطلوبة كانت ترتفع يوما بعد يوم حتى وصلت ذات يوم إلى ثلاثة ملايين دولار فرفضت.
في اليوم التالي، كنت أقيم في منزلي المطل على المرفأ الذي منه كنت عندما استفيق كل يوم أخرج مباشرة إلى الشرفة لأطمئنّ على الباخرتين. في ذلك اليوم، خرجت فلم أجدهما في المرفأ. كان معي هاتف لاسلكي دولي خاص أتصل عبره بالباخرتين وأدير به أعمالي الدولية. إتصلت بفريق الباخرتين البولوني فلم يرد أحد، فأدركت أنهما قد سُرقتا، فاتصلت فورا بالانتربول الذي أبلغ بالأمر جميع مرافئ البحر المتوسط، وطلب أقفال مضيق جبل طارق وقناة السويس. ويبدو أن الخاطفين كانوا يستمعون إلى مكالماتي عبر أجهزة إتصال الباخرتين، وعلموا بما قمت به وأدركوا ان عملية الهرب بالباخرتين أو بيعهما لن تنجح، فأحرقوهما في عرض البحر وعادوا إلى لبنان بمراكب النجاة التي كانت عليهما.
ثم جاءت المطالبة من جديد بالملايين الثلاثة فرفضت مرة أخرى. وفي اليوم التالي بينما كنت خارجاً من منزلي تم اختطافي وتغطية عينيّ واقتيادي واحتجازي في مكان لم أتعرّف عليه. استمر الاختطاف 29 يوما في ظروف سيئة للغاية. وكان الخاطفون يطالبونني يومياً بالدفع، وكنت ارفض.
في هذا الوقت، كانت البلبلة التي سببها اختفائي قد عمّت في بيروت ولبنان وبدأ البنك يهتز إذ بدأ الناس يسحبون ودائعهم خوفاً، ولا أحد يعرف عني أي شيء. في اليوم التاسع والعشرين لم أعد أحتمل الحجز وسوء المعاملة فقد تحطّمت معنوياتي واضطررت للرضوخ وأبلغتهم أنني موافق على الدفع. فسمحوا لي بالاتصال بمدراء فروع البنك وأخبرتهم بما يجري لي، وطلبت منهم فوراً جمع ثلاثة ملايين دولار في اليوم نفسه وتسليمها إلى فلان في المكان الفلاني. فراحوا فرقاً فرقاً يدورون على الصيارفة ومعهم أكياس بلاستيكية سوداء يشترون الدولارات ويجمعونها فيها. وبسبب الطلب على الدولار شهدت بيروت في ذلك اليوم ارتفاعاً كبيراً مفاجئاً في سعره من دون أن يعرف أحد السبب الحقيقي وراء ذلك.
بعد تسليم المبلغ، جاء زعيم الميليشيا التي خطفتني إلى المكان الذي كنت محتجزاً فيه وقابلني لأول مرة منذ اختطافي، فأعطاني عدّة حلاقة لحلاقة ذقني وزجاجة عطر لأتعطّر ، ثم ناولني ساعتي ومحفظتي وقال لي بكل جدية: ” أرجوك أن تعدّ الفلوس التي فيها ربما يكون أحد الشباب قد مدّ يده إليها وأخذ شيئاً”! ثم أغمضوا عيني وأخذوني إلى وسط بيروت وأفرجوا عني هناك في الشارع.
وهنا، نظر إلي وقال تخيّل، أخذ مني بالقوة ثلاثة ملايين دولار ثم خشي أن يكون أحد أفراد ميليشيته قد أخذ التسعين ليرة التي كانت فيها؟!
أما قصة البنك فمعقّدة وطويلة اكتفي منها بالقليل. خرج يوسف الحاج من الاختطاف وكان البنك قد اهتز كثيرا بسبب سحب الناس لأموالهم خوفاّ، وحاول رفيق الحريري حسب قوله إقفال البنك عبر الضغط على المؤسسات الرسمية المشرفة على البنوك في لبنان، مع أن الحاج اقترح رهن عقارات يفوق ثمنها ما كان مطلوبا لإنعاشه. كان يوسف الحاج يقول إن رفيق الحريري كان يريد وضع اليد على البنك ويضع العراقيل أمام كل المحاولات التي قام بها لإنقاذه. وقد جمعتُه يوماً بجورج عازار صاحب المجلة التي كنت أديرها والذي كان على صلة قوية ببعض كبار المسؤولين السوريين في سوريا ولبنان لعله يجد حلاً لموضوع البنك، حتى أنه عرض على من يحل مشكلته أن يعطيه 50 بالمائة منه، لكن يبدو أن هناك من كان أقوى من كل الحلول، فأقفل البنك.
ويبدو أن نيته إصدار المجلة الاقتصادية كان الهدف منها محاولة الدفاع عن البنك في محنته، وبالتالي، مع إقفال البنك، لم يعد لذلك من أهمية. وغاب السيد يوسف الحاج عن السمع والنظر، على الأقل بالنسبة إلي، منذ 1996 حتى الآن.
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثني