بقلم الدكتور نبال موسى
لم أتردد كثيراً على “ضمير لبنان” المرحوم العميد ريمون إده عندما كان يقيم مُهجّراً في باريس، مع أن فندق “كوين إليزابيت” في جادة جورج الخامس حيث كان يقيم، لم يكن يبعد أكثر من خطوات عن مكاتب مجلتيّ “المستقبل” و “ياسمين” اللتين عملت فيهما عشر سنوات، كما لم أحضر كثيراً “الجلسة” الأسبوعية التي كان يستقبل خلالها اللبنانيين للنقاش وتبادل الرأي حول أوضاع الوطن الذي كان غارقاً في الحروب الأهلية والطائفية.
كم أنا نادم على ذلك، لكن الظروف المهنية والعائلية لم تكن تسمح في ذلك الوقت. فالعميد كنز معلومات، إضافة إلى أن الجلوس معه يحيي في المرء شعلة الإرادة الصلبة والعناد والصمود في الوقوف إلى جانب الحق والقانون والمصلحة العامة مهما كانت النتائج، وهذا ما كان يتحلّى به هذا الرجل الذي خسرناه، والذي لن يعوّض. المهم، كنت ذات يوم مع مجموعة من الشباب عند العميد وأخبرنا بهذه القصة التي تمثّل نموذج تصرفات معظم سياسيي لبنان وزعمائه منذ نشأته.
قال: كنت قد طلبت في أول عهد الرئيس سليمان فرنجية من وزير المال تخصيص مبلغ مليون ليرة لتطوير وتحديث مرفأ جبيل، وتمت الموافقة على ذلك في مجلس الوزراء وأُبلِغتُ بالأمر، فكلّفت شخصاً متابعة الموضوع وطلب تحويل المبلغ للبلدية للبدء بالأشغال. لكن الأمور بدأت تتعقّد، والمماطلات تتوالى بحجج مختلفة حتى فرغ صبري فاتصلت هاتفياً بوزير المال وسألته عن الموضوع وأين المال وما السبب في هذه المماطلة… فأُحرج الوزير وحاول أن يجد مخرجا للقضية لكنني أصررت على معرفة الحقيقة فوراً ومن دون مواربة، فاضطر إلى أن يقول لي: يا عميد، المبلغ كان موجوداً بالفعل لمرفأ جبيل لكن فخامة الرئيس فرنجية أخذه لبلدته زغرتا.
قال العميد: جن جنوني إزاء هذا التصرف غير المقبول، فأقفلت الهاتف مع الوزير واتصلت فوراً بالرئيس فرنجية. ردّ الرئيس قائلاً: أهلاً عميد. فقلت: لا أهلاً ولا سهلاً، “ليش أخدت المليون تبع مرفأ جبيل”؟ فأجاب: “ولو يا عميد ليش نحنا قاسمين؟”
قال العميد: إزاء هذا الجواب، قلت له على الفور: ما دمت هكذا، فلن تراني أبداً في القصر الجمهوري طيلة ولايتك، ولن تراني إلى جانبك في أي مكان!
***
وحكى لنا العميد رحمه الله قال: قبيل انعقاد مؤتمر الطائف، رن جرس الهاتف فرفعت السماعة وإذ بصوت يقول: مرحبا عميد، أنا رفيق الحريري. فقلت له: رفيق ما غيره؟ قال: نعم، ما غيره. فقلت له بلهجة جافة: “نعم، شو بتريد؟ أنا على الطائف مش رايح، قرار نهائي”. فقال الحريري: “لا، بس أنا كنت بدي أطمئن عليك”. فقلت له: الآن أطمأننت، وانتهت المكالمة. وأردف العميد قائلاً: أخبروني أنه يتصل بالنواب لإقناعهم بالذهاب إلى الطائف. فسأله أحدنا: وماذا كنت تقصد بعبارة ” رفيق ما غيره”؟ قال: لأنه قبل أن يصبح مليارديراً كان موظفاً في البنك الذي كان فيه حسابي في بيروت، وكنت أعرفه من تلك الأيام. وبالفعل، لم يذهب العميد وحصل ما حصل، وقبض من قبض، وهرول الجميع إلى الطائف وبقي “ضمير الوطن” في باريس.
***
كان أحد أصدقاء العميد يعرف تاريخ ميلاده. فاتصل به قبل أيام من التاريخ وأصر على أن يتناول معه العشاء في ذلك اليوم من دون أن يُشعره بأنه يعرف أن عيد ميلاده في اليوم نفسه، أو أنه يدعوه للعشاء بسبب هذه المناسبة، فوافق.
حجز الصديق الثري قاعة مطعم فندق “فرونتوناك” القريب من مقر إقامة العميد إده ودعا كل أصدقاء العميد وعدداً من محبيه ومؤيديه. واتفق مع المدعوين وإدارة المطعم على أن يجلس الجميع على طاولات العشاء في تمام الساعة الثامنة، وتُطفأ الأنوار، ويقفل الباب عندما يصل العميد وكأن المطعم قد أقفل تلك الليلة. وصل العميد مع صديقه ورأى باب المطعم مقفلاً فقال: غريب، المطعم مقفل! ألم تحجز؟ فقال الصديق: مش معقول، دعنا نفتح الباب لنتأكد. وفتح الباب فكان الظلام مسيطراً على المكان، وفجأة اشتعلت الأنوار وبدأ الجميع ينشدون: سنة حلوة يا عميد!
رحم الله ريمون إده.
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثنين