خطفت زيارة الموفد الأميركي آموس هوكشتاين الى لبنان الإنتباه العام لا بالترسيم البري ولا بمتابعة التنقيب عن الغاز والنفط بل بنشر 3 صور أوّلها تناوله الفطور مقابل صخرة الروشة في مقهى “الفلامنكي” وعلى الطاولة المألوفة للسفير الياباني السابق في لبنان تاكيشي أوكوبو، وثانيها زيارته لهياكل بعلبك وتناوله فطيرة “الصفيحة” البعلبكية، أمّا الصورة الثالثة فعشاء خاص على طاولة بان فيها قائد الجيش جوزاف عون بلباسه “السبور” باللون الأزرق السماوي. رافقته بزياراته وصوره السفيرة الأميركية دوروثي شيّا مع أنّ الرئيس الأميركي بايدن سمّى منذ شباط الماضي ليزا جونسون سفيرةً مكانها لكن تمّ الإعلان عن تعليق التحاقها بلبنان ما يعني أنّ لدوروثي بعد أدوار مهمّة في مرحلة مهمة في لبنان .
نُشرت هذه الصور اللافتة وأنا أبحث في النقطة النهائية بحثاً عن صناعة الرؤساء في لبنان،الأمر الذي دفعني لإضافة هذه المقدّمة المناسبة لتاريخٍ يتكرّر.
كيف؟
أمامي مخطوطتان تضمّنتا 78 مقابلة مع شخصيات طامحة لرئاسة الجمهورية اللبنانية: الأولى: بعنوان ” رئاسيّات في لبنان 1988″ بعد ولاية الرئيس أمين الجميّل (22 سبتمبر 1982 – 22 سبتمبر 1988) والثانية بعنوان “أعرف رئيسك 1995” عندما أطلق الجنرال ميشال عون شعاره المتداول “الرئيس القوي” قبل نفيه في ال1989 وروّج ويروّج له التيّار الوطني الحر. المخطوطتان حافلتان بالأسرار، لأنني ساهمت أوّلاً مديراً لكليّة الإعلام بإطلاقنا فكرة تقديم المرشح لرئاسة الجمهورية برنامجاً لولايته الأمر الذي تقوى المطالبة به اليوم، وثانياً لأنّ كلّ فتاةٍ جميلة كانت تقيم أمام المرآة كانت تحلم بشاشات التلفزيونات مرايا المستقبل وبلوغ النجومية، وثالثاً لأنّني وقّعت اتّفاقاً خطيّاً مع كلّ مرشح مفاده عدم نشر مضمون مقابلته بل الإحتفاظ بها كوثائق جامعية كما يحصل في أعرق الجامعات التي تعلّمنا منها وفيها.
لم ولن ننشر…إذن،
لماذا؟
1- لأنّ فتح الملفات الرئاسية كان يحصل عبر نشر الكتيبات الدعائية والسير الذاتية للمرشح، ولأنّ معظم الشخصيات المارونية كانت ولا أعرف إن كاتنت ما زالت تحلم ببعبدا التي تعرّت من الصلاحيات، ولأنّ الإستحقاق كان مرهوناً بإشارات الخارج عبر التداول الدائم ب”كلمة السرّ” أو “خيارالربع ساعة الأخيرة”، ممّا كان يُقلق صيت المرشحين وصورهم بين الداخل والخارج.
وهذا مختصر تاريخ صناعة الرؤوساء اللبنانيين في الخارج:
أ- كانت فرنسا (من 26 /5/ 1926 الى 21 /9/ 1943) الناخب الأوّل. عيّنت 5 رؤوساء خلال 9 ولايات لأنّ التجديد لبعضهم منحهم أكثر من ولاية متقطّعة أو غير مكتملة. أبرز من أداروا العملية الجنرالات الفرنسيون “كاترو” و”دانتز” و”غورو” و”فوش” و”ديغول” وأسماء بعضهم محفورة فوق جادات العاصمة بيروت.
ب- كان الجنرال سبيرز البريطاني الناخب الأوّل الذي أوصل رئيسين لجمهورية لبنان ( من 21/9/ 1943 إلى 23/9/ 1958).
ج- برزت أميركا منذ 23/9/ 1958 ناخباً وحيداً ل10 رؤوساء. صحيح أنّ فرنسا والفاتيكان ومصر والسعودية وسوريا وإسرائيل وقطر والأردن ثمّ إيران وغيرها كانت تستمزجهم أميركا أو غيرها بالواسطة، لكنّ الأصحّ أن تجاذباً خفيّاً أو تشاركاً مبهماً أو توكيلاً متقناً كان يجري بين هذه الدول مجتمعة أو منفردةً لفرض الرئيس.
كنّا وما زلنا نراكم موقع رئيس الجمهورية لفراغات مقيتة بانتظار كلمة الخارج القاطعة. ينزّه البعض الرئيس سليمان فرنجية الجدّ (1970- 1976) من تدخّل الخارج، لكنّهم يغفلون بأنّ العمارة السياسية التي أشادها فرنجية كانت دمشقية خلال إقامته القسرية بدمشق قبل أن يُنتخب رئيساً للجمهورية. راح يعيد هذا التاريخ نفسه اليوم مع ترشيح سليمان فرنجية الحفيد من سوريا وإيران.
2- لأنّ الصمت البليغ والإنتظارات بلغت ذراها بعد ال 1989، قبل إيصال 4 من قادة الجيش اللبناني الى بعبدا إنضاجاً لخروجهم من اليرزة نحو البرلمان لأداء القسم ثمّ إلى كرسي الرئاسي. والسبب ضحالة المؤسسات كلّها في لبنان الرسمية والخاصة وتعاضدها الفاضح على قتل لبنان واللبنانيين باستثناء مؤسسة الجيش التي بقيت تحافظ على هيبتها وتجمع أبناء اللبنانيين وبناتهم ضبّاطاً وجنوداً تحت الشعار الرسمي: شرف تضحية وفاء.
لم أظفر في المخطوطتين على أيّ مقابلة مباشرة مع أي قائد للجيش أو ناطق باسمه قبل ولوج ال4 منهم قصر بعبدا، بإستثناء مقابلات مع الجنرال ميشال عون إبّان المرحلة الإنتقالية التي شغل فيها كرسي بعبدا وقبل أن يتمّ نفيه قسراً الى فرنسا في ال1989، لكن كان ظاهرة لافتة غير سعيدة حيال نهايات جمعت عهود القادة الأربعة الذين ترأّسوا الجمهورية، من فؤاد شهاب رمزالإصلاح ومحاربة الفساد ورفض التجديد، والحارق لمذكّراته الرئاسية في جنينة بيته المتواضع في جونية، مروراً بالعماد إميل لحّود الذي “رفض مغادرة القصر إلاّ جثة” كما أسرّ لي ونشرت كلامه في مقابلة لي في صحيفة “السياسة” الكويتية، وبقي حتى الدقيقة الأخيرة ليتمطّى الفراغ من 23 /11/ 2007 الى 25 /5/ 2008، بانتظار كلمة السر بانتخاب العماد ميشال سليمان بعد “مؤتمر الدوحة” الذي باشر ولايته بالصمت والحيرة خاتماً عهده بالحوار وإعلان بعبدا العسير والمتعسّر. كان ميشال عون الجنرال الذي مزّق الصمت قبل عودته من منفاه الفرنسي وبعدها ليترك بعبدا وفراغاً كبيراً أشبه بالجحيم الذي حذّر منه إلى زعامة لأكبر تكتّل مسيحي برلماني.
صحيح أنّ الإنقسام حاد والمشهد الضبابي لكن العواصف تبدو تُقارب الهدوء بانتخاب قائد الجيش جوزاف عون المتوقّع على الأرجح لأنّ مؤسسة الجيش ما زالت الوحيدة الحافظة والجامعة للمسارح السائدة والمتشابكة والمستعصية والجامدة بانتظار تقطيع الوقت الثقيل بأفكار وبإمتحانات خطية فرنسية وخماسية وانتظارات مبعوثين لتحلّ كلمة السر الجديدة.