بين ايلي شويري والإبداع مضمونٌ مشترَك، وحاجةٌ متبادَلة، وطموحٌ متشابه، فكما أنّ الإبداعَ لا يُشبهُ إلّا نفسَه، هكذا، ايلي شويري لا يشرحُ إلّا ذاتَه، وعندما تُغَوِّرُ هذه الذّاتُ في ذاتِها، يتفرّدُ بها الإبداعُ بعلاقةٍ لا تُشبِهُ غيرَها، في بُلوغٍ يرتقي الى شيءٍ من الحُلولِ بينهما، يَنسجُ عالَماً من الإبتكارِ، هو أكثرُ من عالَم.
ايلي شويري، هذا الطّافحُ بشعلةِ الحياة، كان لهيبُها، فيهِ، طاغياً، ولا انطفاء، فلا يمكنُ الفصلُ بين لحظةِ النّار، ولحظةِ النّور، فحقيقةُ نارِه أنّها بدونِ رماد، لأنّ ايلي ملتهبٌ بالحبّ، والصّفاء، والعذوبة. لذا، كان الرَّجلُ أصيلاً، ذا شخصيّةٍ نبيلة، ونبيهة، سهلُها واسعٌ، وجَبلُها عالٍ، وعطاياها خصبةٌ لا تشيخ.
لقد عبَّرَ ايلي شويري، في نتاجاتِهِ الموسيقيّةِ، تلحيناً له ولكِبارٍ معروفين، وأداءً، بأسلوبٍ سهلٍ، قريبٍ من الطَّبع، سلاستُهُ تُخاطبُ الكثرةَ من النّاس، وتثيرُ الإحساسَ بالجميل، بشكلٍ مُتقَنٍ، شائقٍ، وفنّي. وهل الموسيقى إلّا فِعلُ خلقٍ متجاوزٍ، يهزُّ أعماقَ الذّوق، بسِحرِهِ، ورونقِهِ، ليكونَ أغنى عطاءً في المتعة ؟؟ ولمّا سُمِّيَ ايلي شويري فنّاناً، فلأنّه يشعرُ بما لا يشعرُ بهِ غيرُه، يُبدِعُ لَحناً وليدَ انفعالٍ، وعاطفةٍ، ” يُمَوسِقُ ” الكلمةَ لتصبحَ، بهِ، أَخلدَ مادّةٍ يُصاغُ بها الفنُّ ليعيشَ ” إِيّام اللّولو “.
لقد جمعَ ايلي شويري، في نتاجاتِهِ، الأصيلَ مع المُحدَث، فهو ظلَّ على الأصالةِ، أو على التأصّلِ الصّادق، وجوهرِ التراثّ الفنّي، ولم يُهمِلِ التّفاعلَ مع الجديد، بمعنى أنّه لم يرتَدّ، فقط، الى القديمِ من الغناء، بل عايشَ حركةَ الحداثةِ الفنيّة، وشاركَ في صَنعِ أشكالِها، وصَوغِ أساليبِها، وحقَّقَ تمايزاً في التّجديد، حتى لا يكونَ ضعيفَ الصِّلةِ بالحياة. من هنا، فقد انسحبَت نارُ الإبداع على نتاجاتِه، وراحَت تتحوّلُ شعلةً تقرعُ بابَ ذَوقِنا، وتستدرجُ آهاتِنا، وتبني محطّاتٍ رائدةً لا تُنسى، تُضافُ الى القَيِّمِ من القديم، والمُبتَكَر من الحديث.
لقد جمع ايلي شويري بين التّلحينِ، والغناءِ، والتّمثيلِخصوصاً مع الرَّحابنة، وحازَ القدرةَ على التّمييزِ بين الجيّدِ وسواه، في هذه المجالات، فاختارَ النّاجحَ، دوماً، متوكِّلاً على الذَّوقِ الذي، مهما اختلفتِ الآراءُ في تقييمِهِ، يبقى موهبةَ الإنسانِ العُليافي التّقديرِ، والإختيار، والتمكُّنِ من الأَنسَب. واستناداً الى صفاءِ التَّذَوقِ، بالذّات، جاءَت نتاجاتُ ايلي جديدةً، نادرةً، مكتَظَّةً بالدّهشة، بعيدةً عن الضَّجيجِالذي يُحدِثُهُ سقوطُ الدَّلوِ في بئرٍ فارغة.ولأَنّ الذَّوقَ متأجِّجٌ في كيانِ هذا الفنّان، لم نجدْ ايلي شويري، يوماً، إلّا مُحَفَّزاً لعطاءِ نتاجٍ مختار، كيف لا، ولهفتُهُ الى الإنتاجِ كريمةٌ جداً، لِوِفرٍ في موهبتِهِ، ورنّاتِ أوتارِهِ، وهو موعودٌ، دائماً، بفَيضِ الإبداع، وكأنّه، مع موهبتِهِ، على الرَّحبِ، لا تَكبحُ، عنهُ، فيضَها، ولا تتعبُ مهما كَثُرَ الطّلَب.
لم يكن ايلي شويري، في محطّاتِ حياتِهِ جميعِها، إلّا جريئاً، متحدِّياً، مناضلاً في مواقفِهِ، ومقطوعاتِهِ النّشيديّةِ والغنائيّة، دفاعاً عن لبنانَ الذي يُحبّ، لبنانَ الخَصبِ بالحريّةِ، والكرامةِ، والجَمال. فأغاني ايلي شويري الوطنيّة كانت شحناتٍ عنفوانيّةً تصدرُ عن إحساسٍ عميقٍ بالإنتماء، والتصاقٍ صادقٍ بالقضيّة، ورعايةٍ مندفعةٍ لفكرةِ الوطنِ المقدَّس. إنّ المضمونَ الوطنيَّ في أغانيهِ، وأناشيدِه،التي أَلَّفَها ولحَّنَها وغنّاها، كانتِ مرآةً ناصعةَ السَّطحِ تعكسُ خوالجَ عواطفِهِ، وتمثّلُ الوحدةَ العضويّةَالكيانيّةَ بينَه وبينَ الأرض.إنّ حقيقةَ ايلي شويري أنّه ثوريّ، آمنَ بأنّ النّضالَ طريقٌ لانبثاقِ نفائسِ الفنّ، هو الذي ما برحَت خيوطُ الوطنيّةِ تشدُّه الى أرضِ لبنان، بصخورِها، ومواكبِ أضوائِها، وظلالِ ترابِها، وسكينةِ عطورِها، فكوَّنها أناشيدَ، وأهازيجَ، فيها من الفتنةِ والرّوعةِ ما يُشعِرُ مُستمعَها أنّ لبنانَ مُتَّكِئٌ أمامَه، داراً بَهِجةً يريدُ لها أن “تِعلى وتِتعَمَّر “. إنّ الوطنَ في نتاجِ ايلي شويري، حاضرٌ أبداً، كما هو حاضرٌ في وجدانِهِ، وضميرِهِ، وعاهُ منذُ أن وعى نفسَه، والى أن تحطَّمَت به قضبانُ حياتِه.
إذا طُرِحَ السؤال : كيف يمكنُ تقريبُ الأغاني من ذَوقِ النّاس، مع الإبقاءِ على مستواها، ومن دونِ التخلّي عن قيمتِها الفنيّة، في زمنِ طغيانِ التّافِهِ، والسّطحيّ، والمُتَخلخِل، واليابسِ، والفوضوي… ؟؟؟ إنّ الجوابَ مُصاغٌ في نتاجاتِ ايلي شويري الكانزةِبالقيمةِ المُكَثَّفةِ في المحتوى، نَصّاً ولَحناً، وقدرةً على التسلّلِ الى إعجابِ الناسِ، وعواطفِهم، وقَبولِهم، وحَفظِهم،وشَوقِهم لتكرارِها، لتصبحَ جزءاً نفيساً من الحضارةِ الموسيقيّةِ المعاصرةِ في لبنانَ، وفي العالَمِ العربيِّ برُمَّتِه.