بقلم الدكتور نبال موسى
ذهبت في العام 1999 الى السعودية للمساهمة في إنشاء وإطلاق صحيفة “الوطن”، صحيفة الأمير خالد الفيصل أمير منطقة عسير في ذلك الوقت، وابن المرحوم الملك فيصل بن عبد العزيز. وللأسف، لم أبق في المملكة سوى سنة واحدة، فقد طرأت ظروف عائلية خاصة أجبرتني على عدم تجديد العقد والعودة إلى باريس.
مركز الصحيفة الرئيسي كان في مدينة أبها عاصمة الجنوب التي تقع على ارتفاع قدره 2265 متراً عن سطح البحر، وفوقها منتجع ” السودة” السياحي الذي يقع على ارتفاع 3000 متر، حيث بنى الامير سلطان بن عبد العزيز، وزير الدفاع والطيران في ذلك الوقت، قصرا فخما، قيل لي انه عندما جاء لافتتاحه لم يبق فيه سوى ساعتين فقط. فقد وصل الأمير في طائرتي جامبو مع عدد ضخم من المدعوين والمرافقين، لكنه سرعان ما شعر بضيق تنفس، فقال له طبيبه الخاص المرافق له إن الاوكسيجين ينقص في مثل هذه الاماكن الشديدة الارتفاع. فأمر الأمير فوراً بتجهيز الطائرتين، وعاد إلى قصره في جدة، ولم يعد إلى “السودة” بعد ذلك اليوم ” الأسود”.
المهم، ما بالي استطرد وأبتعد عن الحكاية التي أود ان احكيها لكم اليوم.
كان في كافتيريا الصحيفة عاملان أحدهما باكستاني واسمه فاروق والآخر هندي نسيت اسمه، وكنت أعطف عليهما كثيرا وأكرمهما، فقد كنت أعرف راتبهما الضعيف وأشعر بأننا كلنا غرباء نسعى في الأرض طلبا لحياة أفضل أو راتب أعلى، وكان راتبي يسمح لي بالتصرف.
في صباح أحد الأيام، طلبت فنجان قهوة من فاروق، فأتى يحمله وهو يبدو حزيناً يائساً على غير عادته. فسألته عن السبب، فقال لي انه سيغادر المملكة بعد شهرين ولن يتمكن من أداء فريضة الحج وزيارة مكة. فسألته عن السبب فقال انه لا يملك المال الكافي للسفر والإقامة في الفندق وغير ذلك، فأبها بعيدة حوالي اكثر من ساعة بالطائرة عن جدة، ثم هناك السفر من جدة إلى مكة غير البعيدة….فسالته كم يكلف كل ذلك؟ فأجاب: 500 ريال، وهو مبلغ كان يمثّل قسما كبيرا من راتبه الشهري، فطلبت منه ان يمرّ الى مكتبي بعد الغداء.
تناولت الغداء في منزلي ثم مررت على البنك الذي كان في الطابق الأرضي من المبنى الموقت للصحيفة وسحبت مبلغاّ من المال لي ولفاروق وصعدت إلى مكتبي الذي كنت أتقاسمه مع الزميل الصديق الكاتب الدكتور علي الموسى الذي لم يكن قد حضر الى المكتب بعد. هتفت لفاروق كي يأتي اليّ مع فنجان قهوة فجاء، فأخرجت من جيبي ما سحبت وبدأت أعد له ال 500 ريال. وبينما كنت أعدّها ، دخل الدكتور علي الموسى الذي كانت بيني وبينه مودة كبيرة ورأى المشهد. ثم سألني بعد خروج فاروق: ماذا طلبت منه أن يشتري لك بهذا المبلغ الكبير؟ فضحكت. وبعد إصراره، أخبرته بالقصة، فقام مندهشاً من على كرسيّه وخرج إلى الممر وهو يصيح: تعالوا يا ناس شوفو التسامح، تعالوا شوفو الدكتور نبال أيش عمل… وفي لحظات، عجّ مكتبي بالزملاء المندهشين من أن مسيحياً مثلي منح 500 ريال لمسلم كي يؤدي فريضة الحج وزيارة مكة المكرّمة. أما أنا فكان جوابي للمندهشين والمتسائلين أنني لم أشعر بأنني قمت بعمل خارق، بل كنت سعيدا جدا من أنني حقّقت لهذا العامل الباكستاني المسكين حلماً لو لم يتحقق لكان بقي غصة في قلبه حتى آخر العمر.
خطر في بالي وأنا اختم هذه الكلمات أن شيوخاً من السلفيين المتعصّبين لو علموا بهذه القصة لربما قالوا إن حِجة فاروق غير صحيحة لأنه حج بأموال مسيحي “كافر” !!! فما رأيكم؟