بقلم الدكتور نبال موسى
هذه ذكرى تعود إلى أيام الدراسة في باريس والى العام 1972 عندما كنت أعدّ أطروحتي للدكتوراه. كنت اسكن في “البيت اللبناني” وهو البناية المخصصة لطلبة الدراسات العليا من اللبنانيين والواقعة في إطار المدينة الجامعية، وكان يسكن فيه أيضاً طالب يتخصص في طب الأمراض الجلدية اسمه روبير فغالي. كانت غرفة روبير في الطابق نفسه حيث كانت غرفتي، وكنا بحكم المجاورة نلتقي مراراً فنشأ بيننا شيء من الود.
كان روبير أثناء دراسته في بيروت مسؤول فرع الطلاب في حزب “الوطنيين الأحرار” كما كان يقول، وهو الحزب الذي أسّسه رئيس الجمهورية الأسبق كميل شمعون. وعندما جاء إلى باريس استمرّ في التعاطي بالشؤون السياسية وخصوصاً أثناء معارك انتخابات “اتحاد الطلاب اللبنانيين في فرنسا” التي كانت دائما شديدة “الحماوة” ويُحسب لها حساب، والتي كم شهدت من العراك وتكسير الكراسي. فقد كانت الحياة السياسية في لبنان منعكسة تماماً على الطلاب اللبنانيين الذين انقسموا بين ثلاث جبهات: جبهة أقصى اليسار وجبهة القوى الوطنية والتقدمية وجبهة اليمين. ومن بين من كانوا في ذلك الوقت في جبهة أقصى اليسار نواف سلام الذي يتردد اسمه حالياً كمرشح لرئاسة الوزراء في لبنان.
كان الرئيس شمعون كلما جاء إلى باريس اصطحب روبير في تجواله. واذكر أنني كنت ذات مساء متوجهاً لتناول طعام العشاء في مطعم الطلاب الواقع خلف البيت اللبناني، فإذا بسيارة جاغوار فاخرة تتوقف إلى جانبي تقودها سيدة والى جانبها رجل سألني بالفرنسية: من فضلك، هل أنت لبناني ؟ قلت نعم. فقال: هل تعرف روبير فغالي؟ أجبت بنعم. قال: هل يمكنك من فضلك أن تقول لي ما إذا كان داخل المطعم أم لا؟ لأنه غير موجود في غرفته، وإن كان فيه، قل له إنني بانتظاره هنا في السيارة. قلت: ومن حضرتك؟ فأجاب بابتسامة لطيفة: كميل شمعون. فانتبهت إلى انه بالفعل الرئيس كميل شمعون، واعتذرت منه بخجل واضح، فأنا لم أره شخصياً في حياتي، وهو كان قد تغيّر مع تقدم العمر، لكنه كان ما زال محتفظاً بأناقته المعروفة ووسامته المشهورة. ثم قال لي: إن لم يكن موجوداً ورأيته فيما بعد، أعطه هذا الرقم، وكتب على ورقة رقم هاتف وبعض الكلمات، وأظن أن تلك الورقة ما زالت في “مغارة علي بابا” بين المئات من أوراقي. هرولتُ أبحث في المطعم عن روبير لكنه لم يكن هناك، فعدت إلى الرئيس شمعون وأخبرته، فشكرني وانصرف.
عندما كان الرئيس كميل شمعون رئيساً للجمهورية اللبنانية، كان يُقال عنه أنه أقرب سياسياً للإنكليز من الفرنسيين أو الأميركيين. وذات يوم أخبرني روبير فغالي بحادثة ربما تؤكد ما كان يُقال. قال روبير إنه كان يمشي يوماً مع الرئيس شمعون في أحد شوارع باريس وكان قد غادر الرئاسة طبعا، وفجأة توقّف الرئيس قائلاً: أنظر يا روبير إلى هذه الحفرة في الرصيف، لقد مررنا من هنا العام الماضي وكانت موجودة، وأنا أتذكرها بالضبط، وها هي اليوم لا تزال هنا بعد عام كامل ولم يتم لا ردمها ولا إصلاح الرصيف، لو كانت في بريطانيا لما كانت بقيت أكثر من أيام معدودة. ذكّرني عندما أعود إلى باريس في المرة المقبلة أن نأتي خصيصاً إلى هنا لمعرفة ما حل بها. وتابع شمعون قائلاً: هل عرفتَ الآن لماذا كنت أفضّل الانكليز؟