بقلم الدكتور نبال موسى
طلب مني الشاعر المرحوم محمود درويش يوماً ــــــ وكان يعلم هوايتي في ما يسمّى “البريكولاج” ــــــ أن أرافقه الى محل ما لشراء مرآة يحتاج إليها في منزله الباريسي وتعليقها على أحد جدرانه. فاقترحت عليه الذهاب الى المتجر الكبير المعروف ( ب. أش. ف.) في شارع ريفولي. وبعد أن اختار المرآة التي أعجبته ودفع ثمنها، قيل لنا إنها غير متوفرة في المتجر نفسه بل هي في المستودع، فإما أن نعود في الغد لتسلّمها أو نذهب لاستلامها من المخزن. ففضّل المرحوم أن ننهي المسألة في اليوم نفسه ونذهب الى المخزن الذي يقع بعيداً في منطقة “أيفري” الشعبية جداً في ضواحي باريس حيث الإيجارات رخيصة طبعاً ومناسبة للمساحات الضخمة التي يتطلبها هذا النوع من المستودعات الكبرى.
فتوجهنا إلى المستودع بالسيارة، وما إن وصلنا حتى قيل لنا إنه مقفل لأن الوقت كان قد أصبح وقت غداء، ويجب الانتظار. نظرنا الى الساعة فكان علينا ان ننتظر حوالي نصف ساعة حتى يفتح من جديد، فاقترح محمود درويش أن نلجأ الى أقرب مقهى نشرب فنجان قهوة “يروّق” أعصابنا.
دخلنا الى أقرب مقهى وأعتقد أنه كان الوحيد في تلك المنطقة شبه المقفرة إلا من بعض المصانع والشركات، وكان مقهى ومطعماً صغيراً شعبيّاً مهلهلاً قديماً بكراسٍ وطاولات شبه مخلّعة … لكنه كان مليئاً بالزبائن من العمال الذين يعملون في تلك المنطقة الصناعية، وبدا من وجوههم أن جلّهم من العرب المغاربة، كما كان صاحب المطعم عربي الملامح أيضاً.
طلبنا القهوة وأشعل محمود سيجارة طبعاً حيث لم تكن السجائر قد مُنعت بعد في مقاهي ومطاعم فرنسا. وبعدما تناولناها ونحن نتبادل الحديث حول حياة وظروف عمل هؤلاء العمال، هممنا بالخروج وتوجّهت لدفع ثمن القهوة وقلت لصاحب المطعم وأنا أمد يدي بثمنها: شكراً. فسألني إن كنت عربياً، فقلت نعم. فقال من أين؟ فقلت أنا من لبنان والأخ من فلسطين. فقال وهو يتنهّد عميقاً: آه…آه على فلسطين…وشعب فلسطين… فلسطين المظلومة… فلسطين المقهورة، لكن شعب فلسطين المقاوم البطل سينتصر مهما طال الزمن… ثم أخذته الحميّة فأخذ ينشد على الفور شعراً … وكان الشعر لمحمود درويش نفسه عن فلسطين، بينما نحن نستمع صامتين مندهشين.
وبعدما انتهى مع آه جديدة طويلة، لم أتمالك نفسي فقلت له وأنا أشير إلى محمود: أتعرف من هو هذا الرجل الواقف أمامك؟ قال مستغرباً السؤال: كلا! فقلت: إنه محمود درويش. فكاد الرجل يقع أرضاً من هول المفاجأة. أن يلتقي محمود درويش شخصياً، وهنا في هذا المكان البسيط، في مطعمه الوضيع؟ ثم صرخ: نعم، نعم، تذكرت الآن وجهه الذي كنت أراه في الصور، وخرج من وراء “الكونتوار” وهجم على محمود وأخذ يقبّل يديه ثم وجهه وهو يقول كلاماً غير مفهوم، ربما بلهجته المغربية أو الجزائرية ـ ويردد فلسطين…فلسطين …محمود درويش هنا أمامي؟
وسمعه من في المطعم، وفي لحظات، تحلق حولنا عدد من العمال العرب الذين تركوا طاولاتهم وطعامهم والذين كانت سعادتهم لا توصف بأنهم رأوا بأم أعينهم محمود درويش، شاعر فلسطين الذي يسمعون عنه، ولمسوا يديه وقبّلوا وجنتيه.
في لحظة أعاد هذا المشهد الى ذاكرتي مشهد المظاهرات التي كنا نقوم بها ونحن طلاب في باريس بداية السبعينات لنصرة القضية الفلسطينية، وكان جلّ المشاركين فيها من الطلاب والعمال المغاربة والجزائريين والتوانسة، وكانوا من الأكثر حماسة واندفاعاً.
وخرجنا للذهاب الى المستودع لتسلم المرآة الموعودة والذهول مسيطر على وجوه رواد ذلك المقهى الصغير الذين خرجوا الى الرصيف يودّعون بأيديهم الملوّحة وأعينهم الدامعة هذا الفارس الفلسطيني الكبير.
حدث ذلك في نهاية 1989 أو في بداية 1990