هذه هي الحلقة الأخيرة من ذكريات جريدة الحائط التي كنا ننشرها على حائط مكتبنا في مجلة “المستقبل” الباريسية خلال السبعينات والثمانينات. وما أنشره هو مقتطفات مما يمكن نشره أو ما بقي في أوراقي من عشرات الملصقات التي فُقِدت أو التي لم أهتمّ بالاحتفاظ بها. في هذا المقال جمعت ما كتبته من “أشعار” كانت تزيّن جريدتنا من حين لآخر.
كان القارئ العربي ولا يزال يعشق الأسرار وخبايا الأخبار، والدليل هو أن الصحف والمجلات العربية لا تخلو من زاوية “أسرار” أو “خبايا” وخصوصاً الصحف اللبنانية حتى الحالية. ولذلك كانت المجلات العربية تتسابق على نشر الملفات “السرية” التي كان معظمها، إن لم يكن كلها، ملفّقاً من نسج الخيال.
وكان زملاؤنا وأصدقاؤنا في المجلات المنافسة يفشون لنا ببعض أخبار “أرباب” هذه الفبركات “السرية” ومنهم زميل كان يكتب في مجلة “الوطن العربي” انتحل إسما أجنبياً هو “جيمس مورا” ليضفي على مواضيعه صفة الجدية لأنه كان يعرف تماماً أن القارئ العربي فَقَد الصدقية عند كثير من الصحافيين العرب والمجلات العربية … ولا يزال. فكان معروف عنه أن زجاجة الويسكي لا تفارق درج مكتبه، ومع كل “كرعة” كان يخترع “خبرأ سريّاً” أو “وثيقة سرية” لا يعرفها أحد إلا هو !
وكان عندنا في “المستقبل” أيضاً زميل تخصص في تأليف المواضيع والأخبار “السرية ” كل أسبوع لدرجة أننا أسميناه “أبو الأسرار”. وذات يوم نظمت له القصيدة المرفقة التي عنوانها “أبو الأسرار” وعلّقناها على الحائط لكنه لم يرتدع.
من ضمن “قصائدي” الانتقادية لمجلتنا “قصيدة” أنشر صورتها هنا أسميتها “الموقف المزماري” وكنت أقصد الغمز من قناة زاوية “الموقف العربي” التي كان يحررها أحد زملائنا الكبار والذي كان يمالئ فيها بعض الأشخاص والأنظمة مما اعتبرته “مبادلة خدمات”.
كانت “المستقبل” على ما أظن المؤسسة الوحيدة بين المؤسسات العربية الكثيرة المهاجرة التي كانت ترفع رواتبنا 15 بالمائة كل عام، ثم انخفضت النسبة إلى 10 بالمائة قبل أن تختفي نهائياً بعد تسلّم ابن الأستاذ نبيل خوري مقاليد الأمور كما ذكرت سابقاً. وفي أحد الأيام فوجئنا بشركة جاءت وغيّرت “الموكيت” على الدَرَج، فاعتقدنا أن دفعة مالية مهمة وصلت وأن ” الزودة” ستعود، لكن ظننا خاب، فنظمت ابياتاً علقناها على الحائط تقول:
قلنالن إجا الفرج / والمعاش رح بيزيد
حطو الموكيت عالدَرَج/ وفركنالك أيد بأيد
وقلنا خيّ راح الحرج/ وانطلقنا بعمر جديد
الجَمَل من تمو عَرَج / وطلع الحلم كتير بعيد
ضمّت المستقبل مجموعة كبيرة من أشهر الكتاب والصحافيين في العالم العربي، من بين هؤلاء الصحفي المصري الكبير أحمد بهاء الدين الذي كان له مقال أسبوعي مع صورة له، وكانت الصورة تعبّر عن عمره في ذلك الوقت. وذات يوم أرسل إلينا صورة جديدة طالباً نشرها مع مقاله بدل الصور الأولى. وقد لاحظنا أن الصورة الجديدة تعود إلى عشر سنوات على الأقل إلى الوراء، فعملنا ملصقاً على طريقة إعلان دواء الشعر الشهير ” نيو هير قبل وبعد” مع الصورتين. وبنفس هذه الروحية الساخرة علّقنا عبارة “تسرح وتمرح” وهو عنوان أغنية مشهورة للمطرب الشعبي اللبناني محمد مرعي شاعت جداً في الستينات وذلك غمزاً من قناة المجلة التي كنا بدأنا نشهد أن هناك كثيرين من الكتاب والصحافيين فيها “فتحوا على حسابهم” كما يقال.
وعلى رغم كل هذا وذاك من انتقاداتنا، كانت “المستقبل” أهم المجلات العربية وأكثرها رصانة واحتراما، وكان الزملاء في الكثير من المجلات العربية التي انتشرت في ذلك الوقت في باريس يحسدوننا على عملنا فيها.
الآن، بعد مرور34 عاماً على غيابها نتذكر “المستقبل” وأيامها بفائض من الحنين، فلقد عشنا فيها أجمل فترة في حياتنا المهنية، على الأقل بالنسبة لي، وأقدم اعتذاري من الزملاء الذين ذكرتهم أو أوحيت إليهم مع أن معظمهم لم يعد من هذا العالم.