هذا هو المقال الثاني حول جريدة الحائط في مجلة “المستقبل” الباريسية العتيدة.
كان المكتب الذي كنت أتقاسمه مع الزميل الصديق أنطوان عبد المسيح يشبه أحياناً مقهى “القزاز” البيروتي الشهير لكثرة الزملاء والزوار الذين كانوا يتوافدون علينا. ولا أدري لماذا كان كل هؤلاء يستظرفون مكتبنا بالذات ويستطيبون الجلوس فيه! لعل ذلك لأنه كان يطل على جادة جورج الخامس الأنيقة وعلى أجمل وأغلى محل في باريس لبيع معاطف الفرو الذي كان يجتذب أجمل النساء وأكثرها جمالا وأناقة. فكانوا يجتمعون في مكتبنا بعد أن يفرغ كل منهم من كتابة مقاله أو موضوعه وينطلقون في مناقشة مواضيع الساعة، يتسامرون ويدخنون ويشربون القهوة…وكان هذا الأمر يزعجنا ليس فقط لأن عملنا نحن كسكرتيريْ تحرير لا يتوقف ولا يسمح لنا بالمشاركة في النقاشات والفرفشات بل لأن المكتب كان سرعان ما يصبح مكتظاً بغيوم دخان السجائر المزعج والحارق للعيون والأنوف. فعلّقنا ملصقا ،مرفقة صورته،على حائط جريدتنا يقول على طريقة ما كان يُكتب على بعض الجدران في لبنان مثل العبارة المشهورة: ” يا صاحب الشرف الرفيع لا تبوّل هنا” فأصبح ملصقنا: “يا صاحب الشرف الرفيع لا تدخن هنا”. ولما لم يلتزم بعض الزملاء، أَتبعْناه بملصق آخر مرفق أيضاً يقول: ” يا أخا العرب، لماذا تدخّن هنا؟”
كنا بالفعل ننزعج لأن كمية العمل الملقاة على عاتقينا كانت كبيرة وتحتاج إلى هدوء وتركيز. وذات يوم “صعّدنا” من حملتنا ولهجتنا في مواجهة هذه المسألة فكتبنا: “قل كلمتك وامشِ، المَضافة تجاه المصعد”. أما “المضافة” المقصودة فكانت مكتب الزميل شكري نصرالله الذي كان كثير الزوّار وطالبي ” الخدمات الصحفية الخاصة”.
وعلى سيرة الزميل شكري فقد كان من محبي أكل اللحم بمختلف أشكاله. وكان يحكي لنا دائما وكأنه يروي قصة حب أو يتغزّل بعشيقة كيف اشترى بالأمس كذا وكذا من اللحم مع وصف دقيق لنوعيته وطريقة طبخة وما شابه. وكانت له جملة شهيرة يرددها دائماً : “يا عيني عاللحم” ! وقد روى لنا ذات يوم أنه أكل وحده على العشاء صينية ورق عنب باللحم و “العصاعيص” وكاد يموت من التخمة وعسر الهضم بعد ساعات، مما استدعى طلب طبيب النجدة في ساعة متأخرة من الليل. ولذلك طلبنا من الزميل الرسام حبيب حداد أن يرسم الرسم المرفق الذي وضعناه على الحائط ويبدو فيه الزميل شكري يلتهم آخر قطعة من خروف والزميل نسيم الخوري ينتظر تقديم خروف جديد. أما الكتابات على اللحم المعلّق فهي مصطلحات طباعية تتعلق بعرض الأعمدة ولون الخطوط. أما كلمة “شوكي” على “وزرة” نسيم فهي كانت اسم محل لبيع الألبسة الفاخرة من الماركات المعروفة، لكن موديلاتها كانت تعود إلى سنة أو سنتين سابقتين، وكانت تستهوي عددا لا بأس به من الزملاء ـــ وأنا منهم ـــ بسبب أسعارها المخفضة. وهكذا كنا “نتغندر” في الشانزيليزيه التي كانت على خطوات من المكتب ببدلاتنا ال “سينييه” من عند المستر “شوكي” الذي كنا نسميه “شوقي”.
ولنختم هذا المقال بموقف سياسي نشر على حائطنا. فعندما جاءت حاملة الطائرات الأميركية “نيوجرسي” إلى بيروت أثناء اشتداد الحرب الأهلية وكانت جماعات مسلحة من القوى اليسارية اللبنانية والفلسطينية والسورية والليبية القادمة من الجبل تشن هجوما وتتقدم نحو القصر الجمهوري، أطلقت “نيوجرسي” نحو الجبل بهدف صد الهجوم عدة طلقات من مدافعها الضخمة اهتزّت لها بيروت لقوّتها وقيل إن صوتها سُمع في صيدا، فرسمتُ يومها مدمّرة مع مدفع كبير جدا وكتبت على الملصق عبارة “أهلا بنيوجرسي” “تزريكة” للزميل والصديق أسعد حيدر الذي كان على ما أظن اليساري الوحيد “المعلن” في مكتب باريس. وبعد العودة من الغداء وجدت على الحائط ملصقا يردّ على ” التزريكة” بخط وتوقيع الزميل أسعد وعليه كلمة “نيو جرصة” وتحتها عبارة “الثابتين عند مواقفهم”. وعلمت فيما بعد أثناء زيارتي للبنان من قريب لي في مخابرات الجيش اللبناني أن القذائف التي أطلقتها “نيوجرسي” كانت … فارغة، فكانت المدمّرة بالفعل “نيوجرصة” وصدق كلام الزميل أسعد ! والله أعلم.
(يتبع)