أجناسُ الكلامِ ثلاثةٌ : اللّغةُ، والشّكلُ، والصَّمت. والمَلاحةُ لا تُناصِبُ الخصومةَ لجنسٍ منها، فانشراحُ النّفوسِ يَطربُ لِوَقعِ التّعابيرِ، أو لمِضرابِ الأوتار، كما لعجقةِ الألوانِ في نَعتِ الصُّوَر، وأيضاً للسِّعةِ في التأمّلِ حيثُ أنّ تَسطيرَ المَشاهدِ في الذّهنِ، من غيرِ نُطق، هو استخراجٌ لنُعوتِ الحياةِ من العُري.
راضي علّوش جعلَ، في الرَّباعيّاتِ، كلَّ خَرزةٍ الى ما يَليقُ بها، ومن دونِ التواء، وفي إجادةٍ أليفةٍ لإدهاشاتِهِ، وإشاراتِه الدالَّةِ على أكثرِ مُرادِه. فهو بَوَّبَ خواطرَه في لمحاتٍ، ومواضيعَ، منها ما قاربَ واقعَ المشاعرِ، فنقلَه بدقّة، ومنها ما جاوزَ مألوفَ الإحساسِ الى ما بعدَه، بِقناعةٍ منه أنّ النّقلَ، وإِن بمصداقيّةٍ تُحفَظ، يبقى مجرّدَ مُحاكاةٍ محدودةٍ للحياة، في حين تكونُ بلاغةُ الإبداعِ، في أكثرِ الأحيان، أعظمَ من الحياةِ نفسِها.
يقتسمُ راضي علّوش مع عُدّةِ اللّغةِ مشاعرَ الرباعيّات، ولكن بِرِفق. في يدِهِ مَقبَضٌ يشدُّ على مفاصلِ التّعبير، ورُخَمِ الألفاظ، وكأنّه أوركستراليٌّ يدوزِنُ نظامَها، ويبني خطوطَها التي تحرّكُ الأمزجةَ، فتتغلغلُ في مسالكِ الأنفاس، ويشعرُ فيها الذَّوقُ بأنّه أَسعدُ ما يكون. وهو الرَّقيقُ الإحساسِ، يعرفُ كيف يختارُ مفاتيحَ مقطوعاتِهِ، ليُظهِرَ ملائحَ الجَمالِ، بموهبةٍ فذَّةٍ، وفي ذلك ربحٌ لرِزقِ الشِّعر.
راضي علّوش، لوحاتُهُ في الرباعيّاتِ تُعلنُ عنه، من دون أن يتكبَّدَ مَهمَّةَ الإفصاحِ عن صانِعِها، فالموهبةُ هي مَصنعُها، والإبداعُ له في كيانِها الصّدارةُ، لأنه قَريبُ راضي بالعَهدِ، والإِلفةِ. لقد طبَّقَ هذا الشّاعرُ النَقيُّ فطرتَه في مفاصلِ أبياتِه، فتلاقَحَت مع الجَمالِ وكأنَّ ظمأَ الشِّعرِ لا يُروى إلّا بالزُّلال.
بالرَّغمِ من اعتبارِ بعضهم أنّ راضي يشكّلُ، في مقاطعِ رباعيّاتِهِ، عالَماً تقليديّاً، إلّا أنّهُ لا يُمكنُ إغفالُ أنّه كان لاعباً مُشِعّاً أهدى الواقعيّةَ انتصاراتٍ مُبينةً، ومن دونِ مُرتَزَقَة. لكنّه، أيضاً، وثَّقَ، بموهبتِهِ، علاقاتِ تحالفِها مع الإبتكار، وأيقَنَ أنّ أمامَها أعمالاً جساماً، فاعتصمَ بالقدرةِ على إتقانِ الإجادةِ لأنه، بِطَبعِهِ، لا يُفتَنُ بالعاديِّ المعروف.
راضي علّوش، بِبليغِ الكلمة، زادَ لغةَ الشِّعرِ ثروةً، والشِّعرُ هو أقربُ الى تصويرِ أغراضِ الحياةِ من سواه، وليسَ عنصراً دخيلاً من دونِ رونق. لقد أقبلَ راضي على هذا الفنِّ ليمتِّعَ الأذواقَ بالتّصويرِ الخلّاب، ولم يدخلْ الى مِلاكِهِ زوراً، فلم يكنْ من النَّكِراتِ الذين يدّعونَ الموهبة، ليُطرَدَ من الهيكل، فيعودُ محروماً، أو كاسِداً، أو مجروحَ القلب. لقد استظلَّ بفناءِ الشِّعر، فدرجَت بينهما عِشرةٌ وطيدةٌ لِما في هذا الشّاعرِ من رقّةِ حسٍّ، ودقّةِ نَظَرٍ، وقوّةِ إفصاح.
الشِّعرُ، مع راضي علّوش، لم يكنْ لتقطيعِ الوقت، بل كان، معه، مجلسَ أُنسٍ جُلساؤُهُ عِتادُ هندسةِ إخراجِ الرباعيّاتِ من القوّةِ الى الفِعل. ويأتي المردودُ على مستوى التوَقّعِ، إنتاجاً فنيّاً سَلِساً، لا يستبطنُ غموضاً أو مُعضِلات، فالقارئُ يستطلعُ وقائعَهُ ولا يجدُ فيها إلّا إمكانيّةَ تَكويرٍ مُطلَقٍ للرَّوعة. فمقطوعاتُهُ المتعدِّدةُ الأنواعِ، وإِن كانَ الحبُّ أسطَعَها، لوحاتٌ تسعى الى بَعثِ الحياةِ فيها بالنَّظَر، قبلَ القراءة، ليطوفَ الجَمالُ على العيونِ بمُتعةِ الإِدهاش.
إنّ الشِّعرَ، كفَنّ، هو نسخةٌ عن الإحساس، لذا، لم يكنْ راضي غريباً عن جعلِ رباعيّاتِهِ جسراً بين أحاسيسِهِ والأّذواقِ التي هي الحَكَمُ الجَماليُّ للمواهب. ولمّا كان إبداعُ راضي قد وضعَ نفسَه في خدمةِ الكلمة، أنتجَ لوحاتٍ لها غيرُ طَعم، في تشكيلاتِها المتأنّقة، وخطوطِها النّاضجة، ما جعلَ الجَمالَ يدخلُ إليها بالرَّغمِ منها لحمايةِ قيمتِها. والجَمالُ حالةٌ قدسيّةٌ لا ينتهكُ حرماتِهِ إلّا المُبدِع، ولا يستسلمُ إلّا لِأَيدي الخَلّاقين، فهو صنيعةُ الرقّةِ والعذوبةِ، وإنْ كان أَثقَلَ حِملاً من غيرِه.
راضي علّوش قالبُ نُبلٍ مستورٌ بثَوب، لم يدخلْ أبوابَ الشِّعرِ، مُنكمِشاً، أو متقَمِّصاً غيرَه، ليفقدَ من قيمتِهِ عطرَها الطيِّب، لِذا، أكرمَ الشِّعرُ وِفادتَهُ، وفتحَ له بيتَه، وحضنَ إبداعاتِه. فما أتاهُ راضي من مادةٍ قيّمةٍ في الكتابة، ليس موضةً تُلبَسُ وتُخلَع، لكنّه زادٌ متألِّقٌ خرجَ عن أنفاسِ هذا الشّاعرِ الفنّان، وقد أشبَعَت نَصيبَه موهبةٌ رشيدةٌ، ويَصلحُ لِإِحياءِ مهرجان.