على الرغم من كل الأقاويل التي تنتشر في مثل هذه الأيام من كل عام، من قبل أصحاب «الغلو والتشدّد والجهل والأمية الدينية»، في عدم وجوب التهاني والتزاور من المسلمين للمسيحيين -إخواننا في الوطن الواحد، وفي الإنسانية- في أعيادهم الدينية، التي هي أصلًا أعيادٌ وطنية، كالأعياد الدينية عند المسلمين، سواء بسواء.
والحقيقة هي عكس ما يقوله هؤلاء أصحاب الجهل والجهالة، الذين لا يعيشون الاّ على الفتنة و الذين يعيشون زمن الرسول «محمد» صلَّ الله عليه وسلم، لا حياته، هو عبث محض لا يمت بصلة لصحيح الدين الإسلامي، ولا لمنظومة المفاهيم والعلاقات الاجتماعية الوطنية.
وفي ردي عليهم أشير بالإستناد إلى منهج الإسلام، بأن تهنئة المسلمين للمسيحيين، والزيارات المتبادلة بينهم، نابعة من تعاليم الدين الإسلامي، التي أوصتنا بالتآلف، والتواصل، كما أن وصايا جميع الأنبياء أكّدت على ضرورة الأخوة بين الناس، فما بالك بين أبناء «الوطن الواحد»؛ وإن كنا متعددين في الدين، ولكننا متحدين في المواطنة؛ من دون وجود أي خلاف في أن «الدين لله والوطن للجميع».
في وطن واحد ينعم فيه الجميع بالحب والخير، ويتساوى فيه الكل في الحقوق والواجبات، فلا تفرقة بين مسلم ومسيحي في أي نمط من أنماط الحياة، فالجميع سواسية في «حق الحياة» وفي «العدل الإجتماعي» وإن كان أصحاب «الغلو والتشدّد والأمية الوطنية»- من الجهتين- قد فرّقوا «البعض» في الوطن الواحد حفاظًا على بقائهم في «الصورة السياسية».
وأعود لأشير إلى أن الدليل على جواز تهنئة المسيحيين بأعيادهم، أمرنا به الله تعالى في سورة الممتحنة: ﴿ لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الممتحنة /٨]، وهي التي فتح الله تعالى بها بابًا عظيمًا من السعة والتعايش الواحد .. وقوله تعالى في سورة البقرة:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}.[البقرة/٨٣]..كما أمرنا المولى عز وجل في سورة النحل {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}[ النحل/٩٠].
وأؤكَّد أيضًا على أنه من المقرر شرعًا أن الإسلام لم يمنعنا من مجالسة أهل الكتاب ومجادلتهم بالتي هي أحسن؛ فقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: ٤٦]. و يقول الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: ٨٦]، حيث أن المولى عزّ وجلّ لم يُفرّق بين من يلقي التحية مسلم أو غير مسلم، والتهنئة في الأعياد ما هي إلا نوع من التحية.
كما أؤكَّد على أن الذين يقولون أن تهنئة اخواننا المسيحيين بميلاد السيد المسيح حرام، أقول لهم أن أول من احتفل بمولده هم الملائكة فى السماء، لا بل احتفلوا قبل مولده بمجرد أن أمرهم الله تعالى أن يخبروا إمه السيدة «مريم بنت عمران» عليها السلام، بأن الله تعالى يُبشرها بكلمة منه اسمه «المسيح عيسى»، فنزلت الملائكة بالبشرى وأشرقت الأرض والسماء بالفرحة به، وهذا بنص القرآن الكريم { إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ }[آل عمران- ٤٥].
ويؤكّد فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور «أحمد محمد الطيب» شيخ الأزهر الشريف ورئيس مجلس حكماء المسلمين قائلاً: «نحن المسلمين نؤمن بأنّ كلًا من التوراة والإنجيل والقرآن، هُدًى ونور للناس، وأنّ اللاحق منها مصدق للسابق، ولا يتم إيماننا بالقرآن ولا بمحمد صلَّ الله عليه وسلم إلاّ إذا آمنا بهذه الكتب السماوية وبموسى وعيسى وبمن قبلهم من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم».
وفي ٢٠١٩/١٢/٢٥ أوضح فضيلته قائلًا: “إعلموا لو أن الله تعالى لو أراد أن يخلق الناسَ على دين واحد، أو لغة واحدة، لخلقهم كذلك سبحانه، شاء أن يخلق الناس مختلفين في أديانهم وعقائدهم ولغاتهم، {ولو شاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة} [هود /١١٨]، فالقرآن الكريم يقرّر أن الناس سوف يظلون مختلفين إلى يوم القيامة، وأنّ مرجعهم إلى الله وهو محاسبهم.
وأكدت دار «الإفتاء المصرية» على :» أن احتفال المسلمين بميلاد السيد المسيح أمرٌ مشروعٌ لا حرمة فيه؛ لأنه تعبيرٌ عن الفرح به، كما أن فيه تأسِّيًا بالنبي صلَّ الله عليه وآله وسلم القائل في حقه: [أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ] رواه «البخاري».
وأضافت «أن الإسلام لم يفرّق بين أتباعه وأصحاب الديانات، فتسامح المسلمين مع مخالفيهم في الاعتقاد، لم يكن نابعًا من اجتهادات فردية أو مآرب شخصية أو أمزجة نفسية، وإنما هي تعاليم ملزمة من الله سبحانه وتعالى ينال مُنفّذها الثواب ويلحق بمخالفها العقاب، فمكارم الأخلاق أصل من أصول الدين، والتزام الحق ركن من أركانه، والمسلم في أخذه بهذه المبادئ ليس له الخيرة في أن يطبقها متى شاء ويتركها متى شاء، بل هي ركيزة ثابتة وميزان منصوب يعامل به الكل على حسب ما عنده، لا حسب ما عندهم».
وفي هذا السياق يؤكَّد العلامة الفقيه الأستاذ الدكتور «علي جمعة» عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ورئيس اللجنة التشريعية الدينية في مجلس الشعب المصري:»يجب علينا جميعًا كأبناء وطن واحد أن يهنئ بعضنا بعضًا في مناسباتنا، وأعيادنا، وأن ننشر الحب والسلام فيما بيننا، لأننا اليوم وفي ظل الظروف الراهنة بحاجة إلى إشاعة مشاعر التآخي والتلاحم والوحدة الوطنية، ونبذ الشقاق، والخلاف، حتى نترك للأجيال القادمة، بناءً حضاريًّا إنسانيًّا أساسه الإيمان، وعماده العدل، وقوته المحبة بين أبناء الوطن».
لذلك يجب علينا أن نحترس أشد الإحتراس من أي فكر ضال منحرف يدعو إلى الإساءة إلى المسيحيين، أو يكفّر المسلمين، فهذه الأفكار هي أفكار خارجة عن هدي الإسلام، وهدي رسوله»نبي الرحمة» صلَّ الله عليه وسلم، وأحكام الشريعة التي أمرت المسلم بالإحسان إلى أخيه المسلم أيًا كان مذهبه في الفقه أو العقيدة، كما أمرته بالبر والإحسان إلى غير المسلم، أيًّا كان دينه، وأيًّا كانت طائفته.
{ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ }[ النحل-٩