عندما يُصبح الجوع أقوى من الإيمان في بلد مثل لبنانكم أراه يتلوّى ويتجعّد كثوبٍ حرير عتيق تحت مكواة ملتهبةٍ طافحةٍ بالجمر… ماذا يحصل؟
أرى الناس يخرّون على ركابهم وأعناقهم ملتوية عجزاً أمام هولاكو العظيم وزوجته عشواء، ويتمتمون وكأنهم يبتهلون:
باسم القضايا القوميّة العربيّة الكبرى، وباسم النضال العربي والعالمي، وباسم الثورة من ماركس ولينين إلى 17 تشرين، وباسم الكفاح الفلسطيني المسلّح “واللي بلا سلاح” وباسم النازحين السوريين والمهجّرين لا فرق بالتسمية بينهما، وإعلاناً للحقيقة ولو في ضوء شمعة تذوب فوق أنف وطننا المظلم ، دعونا نموت قابعين في تجويفة ضرسك يا سيّدنا هولاكو.
همس صوت بين أكوام البشر: أما زلتم تلملمون هذه القشور اليابسة منذ مئة قبل الميلاد ؟
وعندما تقطع الصلوات الصلات الإنسانية (بالتاء الطويلة) بين الناس فتدمّر العقول لتُعلّقها فوق قصورالأديان وشاغليها يلوون أعناق الحضارات وهي منهم براء.
وعندما تَعقِلُ أنتَ العقلَ أي تربطه كمن يربط الرسغ إلى العضد بالعقال الصلب،
وعندما تلعق العقل لعقاً أي تلحسه بلسانك وأصابعك من دون أن تشعر بطعمه وعظمته ولذته وقدراته في البنيان على صورة ما تراه في الكون من حولك،
وعندما تلقَعَهُ أي ترمي به أرضاً ليموت كليّاً تحت الشمس وكأنّه حامل أعشاش الذباب الأخضر الذي يلسع الناس،
أو عندما تقلع العقل من مكانه فتُصبح جماجم البشر مثل رؤوس الأغنام والمواشي يمكن تعدادها في الصفوف من دون تمييز،
وعندما يُصح الخوف من الموت أصعب وأشقى من الموت؟
وعندما تُصبح الكتابة أطناناً من اللايكات والمكبوتات المرتجفة المشقوعةً في النفوس والأحاديث الخفيّة والمُعلنة وبين السبابات والإبهامات ؟
عندها يسيل الحبر أحمر المُقلتين دامعاً وكأنّه يبصق الطوفان الثاني للخلق من جديد لكائنات جديدة لم يألفها وجه الأرض.
والشعوب والأوراق والأفكار التي تطايرت من كلّ الأمصار اللبنانية والعربيّة والإقليمية والدولية نحو بيروت الموت والجوع تبحث عن آدمي لها يحقّق “مجدها” ، تراها سقطت أو اُحرقت في منتصف الطريق، أو تُدركها تراجعت خائفة مشلولةً لما آل إليه الحال في أكفّ شلّة من حكّام مقدودين من صخر وقلوبهم من فولاذٍ تُدير خطاهم المرذولة .
النزر اليسير من سفراء العالم وجماهير العرب يدّعي نعمة الإختباء في غبار الصحاري أفضل من التلطّخ بالسياسة في لبنان هذا الطفل الشقي المسمّر بشياطينه. هؤلاء منهمكون رحلات مواكبة الذهاب للفضاء لكنهم يسمعون من آبائهم عن بلدٍ فلا يصدّقون مع أن الآباء يتلهّفون يومياً توقاً لحبّة لوزٍ تُطلّ من عيون الربيع في لبنان، يا “أخضر حلو” بلا ألفٍ ولام.
أجمل سريرٍ متهالك للتاريخ المسافر المريح لبنان، ما ظهر التماعه إلاّ مع تفتح أوراق المطابع وفوران رائحة الحبر فوق جسد العرب… لبنان مطبعة الدنيا ومشفاها وصحافتها وجامعاتها…يا للسخف وخفّة العقل والشعر!
لم تستطع ورقة عربيّة، طيلة دهر الداهرين، أن تذرف سرّاً دمعةً على رحمها الأوّل القابع تحت حبّة أرزٍّ في الصين. هي الصين تقرع الأبواب وتنسحق الحدود بين الشعوب والدول وتذوب الجغرفيا كأنّها بجبالها وسهولها ومحيطاتها حبة ملح تغيب في الشاشات حيث أرى سكّان الأرض عائلة صغيرة يتواصل أفرادها حول موقد وقد داهمهم الصقيع.
يبدو أنّ بيروت لا تستطيع النوم إن لم تتنشّق سماءً من الحبر الذي يعرّي الأشياء حتّى يحكّ القلم النخاع بحثاُ عن درب العقول، أو هي تعرك عذريّة الورق في منتداي الذي لا يشبع من التثاؤب.
“مات لبنانكم”، أقولها بحياءٍ واضح.
وشرّعت أقلامي وأصابعي في عينيه، لكنه لن يدرك أنّه قائم نائم منذ ولادته قرب وسادة هولاكو وقد وختم الأبواب بالأحقاد بعد أن نزع الصلبان والقربان العتيق عن الأبواب السميكة التي تغرف الفراغ بحجم العالم وتحميه.
ربّما، لا تعرف، أنّ هولاكو بعفشه وحاشيته ورجاله وزعمائه وطوائفه قاعد فينا، في حبرنا وداخل أسرّتنا، وفي جيوبنا وقصورنا الرئاسيّة المنثورة في عواصمنا وفوق التلال في محافظاتنا العارية الباردة بلا حفاضات تعدّ غلال الفساد والسرقات وفي تضاعيف أقضيتنا التي قضوا على ساكنيهم ومواقدهم لربّما يبزغ الصباح.
أحسد كلّ من أمسك بسبّابته ولسانه وصراخه فأفرغ وتفاءل وصدّق بأنّه سياسي بعد أو كاتب قوي ومقروء ومنتصر. صار عمر طنينكم مئةً تجرّونه فوق رصيفكم المذهبي بعصاه المنخور، لكنّه الوطن الذي شبع أهله استحالات ومستوردات وفقدوا عقولهم عندما سلّموا بأنّ وطنهم خطأً مطبعيّ في زاويةٍ العهد القديم.