بقلم الاعلامي و الباحث كمال نخله
أن يكتب الابن عن والده، ففي ذلك وفاء او بعض وفاء. وان يسلّط الضؤ ولو لمامًا على بعض ما انتج وابدع ففي ذلك جزء من ردّ جميل لفضل كبير.
خليل نخله او “الوالد” كما كنت ادعوه دائمًا ، كان شاعرًا بابوّته وشاعرًا بحياته العائلية وشاعرًا بكلّ احاسيسه. كان الشعر بالنسبة له اجمل متنفسّ واحلى حكاية واطيب مرتع انس.
ابصر النور في بيت شباب مطلع الحرب العالمية الأولى عام 1915 نهل العلم في مدارس الضيعة ثمّ في عينطورا قبل ان يحطّ به الرحال في مجاهل افريقيا عام 1932 حيث عمل هناك في التجارة في اصعب الظروف واقساها، وفي احلك اوقات الحرب الثانية.
عاد الى لبنان وتزوّج من جورجات حايك التي انجبت له ثلاثة انعام وفؤاد وكمال في افريقيا. ولأنّ المدارس لم تكن متوفّرة في هذه البلاد البعيدة، فقد اضطر ان يسلخهم عن قلبه ويبقيهم في لبنان في المؤسسات التربوية حيث امضوا سنين الدراسة شتاءً وصيفًا بعيدين عن حنان الاب وعاطفة الام ورعايتهما. وفي هذه المرحلة بالذات فاضت احاسيس الشاعر بأصدق واعذب الشعر كقصيدة “فراق ثلاثتي” التي مطلعها:
دمعٌ شحُّه مقلتاي فانزوي ابكي وابكي والدموع حيارى
وفي بلاد الاغتراب كان يقرأ ويمضي اوقات الفراغ بالابحاث وبنظم الشعر النابع من القلب وخاصةً في المناسبات الوطنية كعيد الاستقلال التي كانت تنظّمها الجالية اللبنانية هناك كما في قصيدته: “لبنان الشهادة والشهامة” التي يقول فيها:
ايه يا لبنان كم في خاطري من جلال لجدودٍ وأباء
من سقوا بالدّم حتى جعلوا من عرين الاسدِ عزًّا وازدهاء
وهناك على ضفاف “مغاور الزمرّد والياقوت” كان الشعر بالنسبة اليه المتنفّس الاوحد ففاضت قريحته قصائد عامودية وكان شعره موزونًا مقفّى وله مطولاّت بلغت حتى المئة وخمسين بيتًا من الشعر على نفس الوزن والقافية. وبعد غياب دام ثلاثين سنة عاد الى الوطن ليرعى الاولاد ويهتمّ بهم ويحقّق حلمه القديم بتدريس اللغة العربية التي كان له فيها صولات وجولات وقد الفّ كتابًا قيّمًا في مبادىء الصرف والنحو وكذلك كتب مجموعة من القصص والرويات عن الضيعة اللبنانية في اوائل القرن الماضي وبعض الاقاصيص والاعمال المسرحية التي سوف تطبع قريبًا. جمع الجزء الاول من قصائده في ديوان اسماه” جنى العمر” وهو يحتوي على أكثر من ثلاثمئة قصيدة موزونة وعلى حوالي عشرين الف بيت من الشعر تدور مواضيعها حول الوطنيات والاجتماعيات والاخلاق والتقاليد والرومانسية والفلسفة والغزل والسياسة. حتى انّه لم يترك موضوعًا إلاّ طرقه بشعره. وكانت له نكهة خاصة تتجلّى بالطرفة والنكتة كقصيدته: “انا الحمار” وقصيدة “عموّ”.
امّا حبّه لبلدنه المتنية بيت شباب فقد فاض في اكثر من قصيدة مثل: “ضيعة الضيعات”- “العرزال” “معاز الجرد” – “بيت جدي” وسواها.
هذا غيضٌ من فيض مما أحببت ان اتذكره واكتب عنه بعد سنوات على وفاته. بقي الوالد خليل نخله شاعرًا يسلخ الكلمة من وجعه ومن احاسيسه ومن تجارب تسعين عامًا امضاها على هذه اليابسة وبقي حتى الرمق الاخير وهو على فراش المرض ينطق شعرًا ويفيض احاسيسًا ونظر الى نفسه في المرآة بعفويته وقال:
ما قيمة الرسم والايام قد اخذت من صاحب الرسم اعوامًا واعواما
حتى تقلّص منه العزم وانتزعت منه السنون وشلّت فيه اقداما