حقه علينا ان نحي ذكراه.
حقه علينا ان نكرمه ونوفيه ولو القليل مما يستحق، ألم يكرمنا جميعا نحن ابناء بيت شباب بتسليطه الضوء على بلدتنا وعلي تاريخها ورجالها وصناعاتها وادبائها وكبارها.
ألم يكرس من العمر سنين طوال باحثا ومنقبا ودارسا لأدنى التفاصيل وساعيا للحصول على وثائق نادره لتكون له المواد الاساسية للقيام بدراساته والتعمق والتدقيق ليوفي الموضوع حقه وليتمكن في نهاية المطاف وبعد ساعات العمل الطويلة من ان يبرز لنا تاريخ بلدتنا ويجعلنا مدركين لجذورنا ولهذا الارث الثمين الذي وصلنا من الاجداد عبر العصور.
انطوان بيطار أغنيتنا كثيرا في حياتك فهلا نستطيع ان نغنيك ولو قليلا في ذكراك.
لقد أعطيتنا من قلبك وقدمت لبلدتنا الكثير الكثير. كنت سخيا معها ومعنا حتى الرمق الاخير. كنت تقوم بابحاثك وكنت تتواصل مع القلم الذي غدا رفيقك الدائم، فكأن حكمة حياتك كانت، اعطوني القلم وخذوا كل شيء.. رحلت تاركا وراءك إرثا ثمينا ومخطوطات لم تطبع ولم تنشر، بالشعر والقصة والتاريخ والسيرة والنقد وسواها.
سألت نفسي كثيرا كيف اصف انطوان بيطار ، مؤرخ أم ناقد أم باحث وبعدما تعمقت في أدبه وفكره، استخلصت أنه صاحب قلم جوال في كل المجالات وفراشه تنشق رحيق الازاهير وتنتقي اكثرها حلاوة وطيبة.
كانت لي معه تجربة مؤثرة وناجحه دامت سنين بداية الحرب اللبنانية عامي 1976 و 1977 حينما طلبت منا الهيئات الشعبية إنشاء مدرسة تتولى تدريس الصفوف الثانوية بعد اغلاق المعهد اللبناني لابوابه بدوام بعد الظهر. كان المكرم يدرس مادة الأدب العربي وكان له من الطلاب كل محبة وتقدير واعجاب.
وتمر السنون ويحال انطوان بيطار الى التقاعد ويترك الادارة ليتفرغ للكتابة والعطاء.
لم تسمح له الوظيفة ان يفجر ما يختلج في داخله، وانتظرها لحظة فرج وحبور ليغوص في عالمه الاحب الى قلبه، الكتابة والمطالعة والابحاث وبعدها الانتاج الرائع الغزير بقلمه السيال الذي لم يعرف حدودا لآفاقه حتى على فراش المرض.
كان يؤمن ان المعرفة التي لا تنمى كل يوم تنقص يوما بعد يوم، لذا كان مواظبا على الكتاب لزياده معارفه وكان يتواصل معه حتى اصبح رفيقه الدائم الذي لا يفارقه قيد انمله. كان يؤمن بأن حب القراءه هو استبدال ساعات السأم بساعات من المتعه. لقد وجد انطوان أن الكتاب هو خير صاحب وافضل رفيق لا يخون ولا يماكر ولا يكذب ولا يتكاذب وقد يكون الوفي الأوحد بين الأصدقاء.
كتب بحب وكان يؤمن أن الكلمة هي خير وسيلة لتلاقي الناس وجمع شملهم، الكلمة هي التي تنير وترشد لا التي تهدم وتفرق وتحطم. الكلمة التي هي جوهر الحضارة وماهية الانسان واداة التواصل وصلة المعرفة والتفاهم بين الناس وكأني به كان يردد مع كبيرنا ميخائيل نعيمة:” الكلمة النيرة الصافية لا تستوعبها ولا تتأثر بها إلا القلوب النيرة الصافية”.
أجمل ما تحلى به انطوان بيطار أنه عمل بصمت ورحل بصمت. لم يتبجج لم يرغب بالظهور والتباهي. عاش الحياة ببساطتها وكتب بروحية الاديب الملتزم دون ان ينظر الى الوراء ودون ان تكون الشهرة هدفه والاعلام البراق طموحه. كان ايمانه ان ما يصبو اليه هو العطاء الفكري والادبي وليس الكلام المنمق او التشاوف والبهرجة الفارغة فكأني به يردد دائما:
ملأى السنابل تنحني بتواضع والفارغات رؤؤسهن شوامخ. حقا كنت كبيرا بتواضعك وكنت شامخا ببساطتك وطيبتك وايمانك وقناعتك ان البصر يستمد نوره من الاثير المحيط به وان النفس تستمد نورها من ضياء العلم والمعرفة.
وبعد يا صديقي ويا ابن هذه البلده العريقه التي اعطيتها من القلب وكشفت النقاب عنها، الأكيد انها ستبقى لك وفيه وسيردد ابناؤها اليوم وغدا وعلى مدى الدهور الاسم الذي حفر إسمه في تاريخها وفي ماضيها المجيد وحاضرها المنير وستكون بيت شباب والدكتور صنوين متلازمين، فكلما ذكرت الأولى ذكر الثاني لأن ضيعة الضيعات والبيطار رفيقا درب وصاحبا مسيرة طويلة تلازما معا وارتبطا سوية، وستظل روحه ترفرف في كل أرجائها وسيظل صدى كلماته يتردد في كل شارع وحي وكلما ذكر الناس بيت شباب ذكر معها انطوان بيطار.