اعداد عمر الناطور
منذ أواخر العام 2019 والحديث عن إقرار مشروع قانون «الكابيتال كنترول» واعادة هيكلة المصارف لم يتوقف يوماً بين جميع السياسيين، رغم كثرة مشاريع القوانين ومقترحاتها المقدمة والمناقشة والمعدّلة على طاولتي الحكومة والبرلمان.
فقد سقطت مقترحات قدمها وزير المالية السابق غازي وزني على طاولة رئيس الحكومة السابق حسان دياب، وسقط طلب حاكم مصرف لبنان لنيل صلاحيات استثنائية لتنظيم القيود التي طبقتها المصارف العاملة في البلد على المودعين وتوحيدها.
كما أسقطت صفة العجلة أيضاً عن اقتراح القانون المعجل المكرر المقدم من النواب ياسين جابر وسيمون أبي رميا وآلان عون. كما سقطت التعديلات التي أدخلتها على القانون لجنة المال والموازنة بعدما استلمت دفه المقترح وسيرت سفينته بتوجيهات صندوق النقد بنسبة 80 في المائة، وبات هناك اقتناع بأن الطبقة السياسية الحاكمة لن تفرج عن هذا القانون ولا عن قانون هيكلة المصارف ولن تأخذ بعين الاعتبار ما حصل قديماً في لبنان وفي بعض الدول، وكيف يتصرف المسؤولون لحماية الوطن والمواطن، لأن همهم تبرئة أنفسهم من الفجوة المالية الموجودة وتحميلها للمصارف والمودعين بعدما هرّب معظمهم ثرواته إلى الخارج.
لبنان الستينات
فجر يوم الاثنين 5 يونيو (حزيران) 1967، شنت الطائرات الإسرائيلية غارات على المطارات المصرية واستكملتها بغارات على سوريا والأردن مما أدى إلى اندلاع حرب بين الدول العربية وإسرائيل عرفت بحرب الأيام الستة، يومها استشعر المسؤولون اللبنانيون بالخطر وفي مقدمهم رئيس الجمهورية الراحل شارل الحلو ورئيس الحكومة الشهيد شيد كرامي ورئيس مجلس النواب الراحل صبري حمادة والوزراء والنواب كافة، فعقد مجلس الوزراء جلسة طارئة عند الساعة الحادية عشرة من اليوم ذاته، وتم إقرار مشروع القانون المكرر وإحالته بالمرسوم الرقم 7510 بطلب صلاحيات تشريعية في المجال المالي والاقتصادي لمواجهة المرحلة وتداعياتها. لم يتأخر مجلس النواب في ملاقاة الحكومة وعقد عند الساعة الرابعة والنصف جلسة برئاسة الرئيس صبري حمادة، وأقر عند الخامسة أي في أقل من نصف ساعة طلب الحكومة وصدر القانون رقم 45/67 بتاريخ 5 حزيران 1967، بإعطاء الحكومة حق التشريع لمدة شهرين بمراسيم تتخذ في مجلس الوزراء في القضايا الاقتصادية والمالية والقضايا المتعلقة بالسلامة العامة، وبفضل هذا الوعي والمسؤولية أمكن تجاوز الأزمة دون أي تأثير على الأوضاع المالية والمصرفية (لا سيما خروج الودائع) التي بقيت مستقرة.
أما في قبرص التي سبقت لبنان في الانهيار المصرفي قبل بضع سنوات، فكان قانون الكابيتال كنترول جاهزا للتنفيذ في غضون أسبوعين من اندلاع الأزمة المصرفية، وبدأ العمل بأحكامه على الفور بعد تحديد نسب الخسائر التي ستتحملها الحكومة والمصرف المركزي.
وفي اليونان الذي أدى الانهيار المالي فيها إلى استنفار الاتحاد الأوروبي ومصارفه المركزية، وتقديم المستشارة الألمانية السابقة ميركل عشرات المليارات لنجدة الدولة العضو في الاتحاد، فقد سارعت الحكومة اليونانية الاستثنائية إلى استصدار قوانين مالية عاجلة، في مقدمتها قانون الكابيتال كنترول، تجاوباً مع الشروط الأوروبية للمساعدة الفورية.
أين لبنان اليوم من رجال الدولة بالأمس، ومن تجارب الدول القريبة منه؟ وما الأسباب التي تعرقل صدور القوانين الإصلاحية المطلوبة لإعادة الثقة إلى البلد واقتصاده.
الإرادة السياسية مفقودة
النائب السابق لحاكم مصرف لبنان الدكتور محمد البعاصيري قال في حديثه لـ«المجلة»: «أصبح من المؤكد أن إدارة الأزمة منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 لا تقل سوءا عن الأسباب التي أدت إليها. ولن أدخل في نظرية المؤامرات بل أبقى على يقين في عدم وجود الإرادة السياسية للدخول في حلول جذرية وجل ما عمل عليه المسؤولون يبقى في باب الترقيع».
وتساءل: «كيف لنا أن نفهم أن قانون الكابيتال كنترول لا يزال يدور في حلقات مفرغة منذ أكثر من ثلاث سنوات وقد كاد أن ينفذ الكابيتال لدينا؟ هل هي فقط الإرادة السياسية أم إن هناك أسبابا أخرى؟».
أما بالنسبة لما يسمى إعادة هيكلة المصارف، فقال: «لا أعتقد أن هناك مشروعا مقدما بشكل رسمي من الحكومة، وبالتالي لا أعلم ما إذا كانت هناك إمكانية لنقاش مسودة ذات صلة يظهر أنها تختزن أفكارا حكومية».
وتابع: «أخشى أن المماطلة في بتّ قانوني الكابيتال كنترول وإعادة هيكلة المصارف يخفي نية لدى البعض في فرملة النقاشات مع صندوق النقد الدولي، وبالتالي الوصول إلى تجنب الوصول مع هذه المؤسسة الدولية إلى برنامج إنقاذي يضع لبنان على سكة الحل وبالتالي قد يستبطن هذا التأجيل إلى عدم إقرار الإصلاحات الضرورية للبنان».
وحول سؤال كيف يمكن لهذا التأجيل أن ينعكس على مصير الودائع؟ قال: «يبدو أن تآكل الودائع بشكل يومي بدأ منذ يوم 17 أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2019 سواء عن طريق دفعها امتثالا لتعاميم مصرف لبنان ذات الصلة أو عن طريق بيع شيكات الدولار اللبناني نقدا على أساس خسائر كبيرة تعدت 80 في المائة من قيمتها في العديد من الأحيان، يبدو أن هذا الأسلوب مما يسمى (hair cut) يناسب الكثير من المسؤولين وبالتالي تنتفي الحاجة عندهم لإقرار قوانين تحدد مصير الودائع ونسبة الخسائر المتوقعة عليها. وبالتالي في غياب القوانين ذات الصلة من كابيتال كنترول وإعادة هيكلة المصارف وإعادة التوازن المالي، يبدو أن الرهان يبقى في استنزاف الودائع بخسائر عالية دون إقرار تلك القوانين ومواجهة الحقيقة كما هي وبشكل علمي لتقول للمودعين إن ودائعهم قد خسرت النسبة الأعلى».
وأكد بعاصيري أنّه لا يمكن الرهان على إقرار تلك القوانين في الزمن المنظور في ظل الشغور الذي أصبح يطال أهم المؤسسات الدستورية.
وحذّر من محاولة البعض عدم التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، مؤكداً أنه لن تكون هناك إمكانية لإنقاذ البلد دون التوصل إلى اتفاق برنامج مع الصندوق.
الكابيتال كنترول.. مسار ضروري للإصلاح
من ناحيته، أكد كبير الاقتصاديين ورئيس قسم الأبحاث لدى بنك عودة الدكتور مروان بركات، في حديثه مع «المجلة» أن التأخر في إقرار قانوني الكابيتال كنترول وإعادة الهيكلة يلحقان ضرراً بالقطاع المصرفي والاقتصاد اللبناني بشكل عام.
وقال: «هنالك إجماع على أن إقرار قانون للكابيتال كنترول في البرلمان خطوة ضرورية وملحّة وإن كانت متأخّرة وشرطا أساسيا لأي مسار إصلاحي، إذ لا يمكن للاقتصاد اللبناني أن يعود إلى نموه الحقيقي الإيجابي ويستعيد عافيته وينهض من جديد دون قانون للكابيتال كنترول يطبّع النشاط المالي والمصرفي بشكل عام. عند إقرار القانون، يصبح هناك قانون يدعم حركة تنقّل الحسابات الجديدة بالدولار الأميركي، وبالتالي تحفيز قدرة القطاع المالي على اجتذاب الأموال إلى الداخل. من هنا، من المهمّ جداً الإقرار السريع لقانون الكابيتال كنترول يطبّع القطاع المالي بمعزل عن خطة التعافي التي من الممكن أن تحتاج إلى وقت أطول وتأتي مكمّلة لقانون الكابيتال كنترول.
وأكد بركات أنّه «من المستغرب أنه رغم الإجماع المحلّي وإجماع من قبل المؤسسات المرجعية الدولية كافة كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومعهد التمويل الدولي والـ IFC ومؤسسات التقييم العالمية مثلMoody’s وS&P وFitch حول الحاجة الماسّة والآنية إليه، لم يقرّ هذا القانون بأي من نسخه المتعدّدة على مدى السنوات الثلاث الفائتة. بغض النظر عن الثغرات، أن إيجابيات إقرار الكابيتال كنترول، تتخطى بكثير النقاط السلبية. من هنا أهمية أن تسرع السلطة التشريعية في هذا الإقرار المتأخّر إنما الضروري والمحوري لأي تعاف للبلد في المدى المنظور بشكل عام».
أما فيما يتعلق بقانون إعادة هيكلة المصارف فيقول: «هو من أهم متطلبات صندوق النقد الدولي، وهو ضروري لإعادة إحياء المصارف، ولكي يستعيد القطاع المصرفي عافيته. نحن نعتقد أنه لا مخرج للأزمة الاقتصادية النقدية الراهنة من دون اتفاق مع صندوق النقد يؤمن مداخيل بالدولار إلى لبنان سواء كان من خلال صندوق النقد مباشرة أو من خلال الدول المانحة فيما بعد، والتي لن تمد يد المساعدة إذا لم يكن هنالك مراقب دولي للإصلاحات ألا وهو صندوق النقد. وتبرز أهمية هذه المساعدة في ظلّ الاستنزاف المستمر في احتياطات مصرف لبنان».
وأكد بركات أنّه «بعد توصل الحكومة إلى اتفاق على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي، يبرز التحدي الأكبر في تلبية السلطات اللبنانية لمتطلبات صندوق النقد من أجل إبرام اتفاق نهائي مع مجلس إدارة الصندوق يفتح الباب نحو الحصول على التسهيلات المباشرة ويحفز كذلك الدول والجهات المانحة بشكل عام. ويبرز قانون إعادة هيكلة المصارف بين أبرز المتطلبات المسبقة للاتفاق الشامل مع صندوق النقد، خصوصاً في ظل خسائر إجمالية في القطاع المالي قدّرت بما يناهز 72 مليار دولار، هذا وإذا أردت أن أحاول استشراف القطاع المصرفي ما بعد الإصلاح وإعادة الهيكلة، أتصوّر أن المشاكل الأساسية تكون حلّت عندها مع تحرير القيود على الرساميل وتحرير سعر صرف الليرة اللبنانية. ويجب أن لا تتعدى الموجودات الإجمالية للقطاع المصرفي 150 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي ما يتماشى مع البلدان ذات البنى الاقتصادية الشبيهة بلبنان مع عدد مصارف أقلّ، كما يجب التركيز على القطاع الخاص وبالليرة اللبنانية باستثناء المصدرين والمؤسسات التي تتعامل وتتعاطى مع الخارج ويجب تفادي وجود انكشاف على الدولة اللبنانية خصوصاً بالعملات الأجنبية أو تركز عند عميل اقتصادي معيّن أو مدين معيّن. ويجب أن تكون معدلات الفوائد منطقية تتماشى مع المعدلات العالمية ودولرة متدنية لا تتجاوز 30 في المائة على صعيد كل من الموجودات والمطلوبات بشكل عام».
ترميم الثقة بين المودع والقطاع المصرفي
أما الخبير في المخاطر المصرفية الدكتور محمد فحيلي فقد اعتبر في حديثه لـ«المجلة» أن «الأضرار التي يتعرض لها القطاع المصرفي منذ أن انطلقت الأزمة لم تتغير، ويمكن القول إن الأضرار هي فقدان الثقة والتأخير بإطلاق عجلة ترميم هذه الثقة بين المودع والقطاع المصرفي اللبناني سيدفع ثمنه الاقتصاد الوطني، اليوم نحن نفكر جدياً بالتطورات التي حصلت منذ اندلاع الأزمة فنرى أن القطاع المصرفي واجه أزمة سيولة رهيبة والسبب أنه أخطأ في سياسة التوظيف التي قام بها سواء بتوظيف أموال المودعين في القطاع الخاص، أو بتوظيفها في القطاع العام. وبسبب قرار سياسي اتخذته السلطة اللبنانية في شهر مارس (آذار) 2020 بالتوقف نهائياً عن خدمة الدين، تدنى تصنيف لبنان الائتماني وهذا الواقع خنق القطاع المصرفي، واليوم وبغض النظر عن عدد المصارف 5 أو 9 أو 20 مصرفاً تعزز رساميلها مع المصارف المراسلة، فستظل المشكلة قائمة وتخنق القطاع ولن تسمح له بالعودة إلى الحياة بسهولة لأن الممر الإلزامي لعودة الحياة إلى المصارف وإبرام اتفاق منتج مع صندوق النقد الدولي، بغض النظر عن حجم المساعدة التي سيقدمها، لأن التفاوض مع الصندوق وتوقيع اتفاق منتج هو ممر إلزامي لإعادة لبنان إلى الأسواق المالية العالمية وتحسين التصنيف الائتماني لجهة المخاطر وإعادة الحياة الطبيعية بين المصارف اللبنانية ومصارف المراسلة وهذا شرط أساسي لإعادة الحياة إلى القطاع وتفعيل وتمكين المصارف والمستهلك والمؤسسات التجارية اللبنانية للجوء إلى وسائل الدفع المتاحة، مثل بطاقات الدفع وبطاقات الائتمان والشيكات والتحويلات».
وأكد فحيلي أن «هذه الوسائل تعيد الحياة إلى القطاع المصرفي وهذا مطلب كل مواطن لبناني وممر إلزامي لوقف المضاربات في سوق الصرف، وهذا الامر يحتاج إلى سيولة لأنه يحد من استعمال الكاش».
وأكّد أن «الوعود بسداد الودائع هي وعود فارغة وكاذبة مائة في المائة، لذا فإن الأمر المهم أولا هو الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي لأنه الممر الإلزامي لعودة لبنان إلى الأسواق العالمية وتحسين التصنيف الائتماني للبلد، ثانياً تفعيل عمل وسائل الدفع المتاحة، مع الإشارة إلى أن هناك مصارف باشرت وبمبادرة ذاتية إعادة الهيكلة عن طريق تقليص الفروع وعدد الموظفين والخروج من أسواق كثيرة خارج لبنان وهذا طبيعي لانكماش حجم المصارف، لأن القطاع المصرفي سينعكس حجمه على حجم النشاط الاقتصادي الموجود فيه».
وأشار إلى أن اليوم «ثمة انكماش اقتصادي في لبنان، إذ تدنى الإنتاج القومي من 55 مليارا إلى 20 مليار دولار، وهنا تأتي أهمية هذه الخطوات، والمصارف مطالبة بإعادة العمل حسب إمكانياتها لإطلاق عجلة التواصل مع المودعين كونهم هم الدائنون، وصدموا من إجراءات المصارف معهم وهذا الأمر يجب أن يتوقف، وأن يكون هناك تواصل إيجابي حتى تعاد عملية الثقة بين المصارف والمودعين، هذه هي النقاط الأساسية وأنا أعتقد أن هذه النقاط يمكن أن تنفذ من دون انتظار الفرج من السلطة السياسية الفاشلة، يجب على المصارف أن تتحمل مسؤولية قراراتها الخاطئة التي اتخذتها على صعيد توظيف الأموال لأنه اليوم وخلال المناقشات مع صندوق النقد الدولي، قيل إن المصارف ملزمة بتوظيف 25 في المائة من ودائعها بالعملة الوطنية و15 في المائة من ودائعها بالدولار، لكن المصارف وظفت أكثر من هذه النسب ويجب على المصارف أن تتحمل تداعيات هذه التوظيفات لأنها توظيفات استثمارية».
المصدر: مجلة المجلة