يتخذ التضاؤل في دور المثقف أشكالاً متعددة بداية من الهروب نحو الأمام و مروراً بالقيام بخطوات مُتواصلة لجلد الذات وصولاً إلى الادعاء بأنه ينوي و يريد القيام بدور ما و لكن أصفاد المجتمع و أوحال مشاكله الكثيرة تجعله قابعاً في حالة مَرضية مزمنة ، و من ناحية أخرى فإن حصيلة التجارب أثبتت فرقاً هائلاً بين الأحلام و الأمنيات التي ظنها بعضهم قاب قوسين أو أدنى من التحقيق ، و بين حقائق الواقع الاجتماعي المرير و الظرف الحياتي القاسي آل الحال فعلياً بجموع المثقفين للتراجع و الانزواء و توسعت الفجوة بين المثقف و المجتمع ، و لا يخفى عموماً بأن المثقف الذي دخل مُعترك العمل و الحياة بشكل عام كان قصير النفس و شديد البعد عن الانغماس في تفاصيل الحياة اليومية لعموم الناس و أجاد التنظير من الأبراج العالية في عدد كبير من الحالات و لهذا فسرعان ما تراجع إلى الوراء بخطوات كبيرة لأنه اكتشف حقيقة أخطاء الحياة الصغيرة و الكبيرة هنا و هناك بحكم الصراع اليومي بشتى أشكاله الاجتماعية و العائلية و النفسية و العملية و الاقتصادية و غيرها ، و في الحقيقة فإن لخطوات المثقف العكسية إلى الوراء سبب جوهري يتجلى في عدم إمكانية تحقيق أهدافه سريعاً و لأن ما تصوره من إنجازات لم يتحقق و لذا فأمام أول انكسار نكص الغالبية على أعقابهم و ولوا الأدبار .
من الواجب الاستفادة من دروس التاريخ من خلال استيعاب و اختصار خطوات طريق الألم و المعاناة في متاهات هذه الحياة و إلا لماذا يُبحر المرء في قراءة صفحات التاريخ العميقة بغية دراسة التفسيرات العلمية لعمق مراحل تطور الحياة المجتمعية في سبيل التعرف على مُجمل الثغرات و حفز جموع المواطنين للقيام بدورهم المجتمعي الحضاري لاجتياز كل مراحل العناء و الشقاء ، و بصريح العبارة فقد ساهمت جملة من العوامل المتعددة و الإضافية في تهميش دور المثقف الحقيقي في جوانب الحياة بكل صورها و من أبرز تلك العوامل اتساع درجة و مستوى الإغراءات المادية للمثقف بالمقاييس الاستراتيجية بعيدة المدى و لذلك ازدهرت ظاهرة الاستمالة و التحق بها ركب من المثقفين الذين رأوا أحلامهم في تحقيق إنجازات سريعة قد تعرضت للوأد بنتيجة الإحباط أو لضخامة تأثير الجو المحيط وصولاً لقناعة راسخة بعد تجربة طويلة بأنه لا سبيل لتغيير صور الواقع الاجتماعي و المعيشي القائم إلا من خلال الإطارات و الهيكليات الاجتماعية و كذلك الثقافية و الاقتصادية و التربوية القائمة بدون أي بطء أو أوهام باهظة الثمن ، و لا جدال في أن طبيعة الأمراض و الظواهر السلبية التي أفرزتها أجواء الحالة الراهنة كالاقتتال العنيف بين معظم الأفرقاء بالكلام و انتشار حالة و ظاهرة احتكار الصواب و أسلوب التخوين السهل و شيوع الاتهامات المُتسرعة يميناً و يساراً ساهم بحدة في إسراع معظم المثقفين للنجاة من هذا المستنقع حتى لا يُصيبهم رذاذ قليل أو كثير من تبعات ذلك كون المثقفون في جملتهم حريصون بشدة على التحلي بالطهارة و السمعة الطيبة و الابتعاد عن أشكال المعارك و النزاعات التي قد تُلوثهم بسبب محدودية درجة الفهم العام في معظم شرائح المجتمع في الوقت الحالي حتى ولو أدى ذلك إلى تأخر مسيرته الحضارية و دوره الإنساني .
د. بشار عيسى / سورية