الشعر يرفع النقاب عن الجمال المخبؤ ويبدع الطبيعة من جديد، لانه بين الارض والسماء ثمة امور كثيرة لا يحلم بها إلاّ الشعراء، الذين يجد المجتمع نفسه بحاجة اليهم حاجة الليل الى النجوم، ذلك انّ الشاعر وهو ينظم قصيدة يمتصّ الصدق من شفتي الحياة المُسمتَين. هكذا وجدت قصائد شوقي في “تالينار” عاطفة جياشة وفكرة متوقّدة وخاطرة عميقة سُكبت في قوالب جمالية الكلمة والنغمة. ففي “تسريبة القمر” اسمعه يقول:
بكراه انا رح طلّ
تسريبة قمر….غلغل بشعرك
غير عن كل البشر!
وخلّي الشمس عَ الريق نورا يلا طشك
وقلّو بكوخ الورد: إفقع يا قمر!!!
وفي قصيدة “مرايي كذابي”:
حلمتك عَ البوابي مبارح انتَ وجايي
ونظراتك عَ تيابي عم تحكيلي حكايي!
والمرايي اللي غارت كبتّ كلمة وطارت
لا تصدّقها صارت كذابي المرايي
نجدالصدق والعفوية والكلمة السلسلة تنساب انسيابًا دون تكلف ودون إجهاد ودون بحثٍ عنها ، فهي تتدفّق تدفّق المياه العذبة الجارية في سواقي الضيعة، وتكرج كرج الهوينا لتروي غليل العطشان وتطفىء ظمأه. امّا الحنين الى القرية والايام الخوالي فتجده في قصيدة ب”بيتنا الباقي” حيث يردّد:
ب بيتنا في يوك شو عتاق فرشاتو
لون التعب مزروك بخيال درفاتو
وهل ابلغ من هذه الصورة في توريتها من خلال نسيج خاص حيث التعب مزروك بخيال الدرفات وليس بواقعها
وفي غزله جرأة وصدق في جنون الحبّ وفي اختلاج الأحاسيس ولهيب المشاعر كقوله:
حطيّ شفافك ع شفافي ت يقولولك : عوافي
شفتك برداني بهلليل حتى يدفيكي سهران
يا محلا شعور البردان لما يغلغل ب الدافي
ويسأل البعض هل غزل شوقي يشبه غزل مارون كرم في “سلة ورد وقلوب” ام هو قريب من شعر سعيد عقل في “يارا” واجيب بكل صدق وثقة انّ شعر شوقي لا هو قريب من هذا ولا من ذاك، انّه نسيج قائم بذاته، انّه عالم خاص به، هو صيغة شعرية مصقولة بقوالب جديدة عمادها البساطة والعفوية والبعد عن التكلّف، جمالها في كونها تنبع من الداخل مباشرة دون مداورة ودون تصنّع.
ففي شعر شوقي النابع من الصميم انتعاش للنفس وإحياء للمهج وإرواء لغليل. هذا الشعر الاصيل الذي يريده ان يزداد انتشارًا ويكثر متزوقوه في ظل هذه المادية المتحجرة الطاغية التي يبّست القلوب وحجّرت الافكار. وترد امامي مقولة للكاتب والشاعر الفرنسي الكبير فيكتور هوغو هذه ترجمتها:
“ينادي كثير من الناس في ايامنا هذه انّ الشعر قد ادبر زمانه . وما اعزب هذا القول؟! لكأنّ هؤلاء القوم يقولون: إنّ الورد لن ينبت بعد، وانّ الربيع قد أصعد آخر انفاسه، وانّ الشمس كفّت عن الشروق، انك تجول في مروج الارض فلا تصادف عندها فراشة طائرة…لكأنهم يقولون: انّه لا أحد اليوم يبكي على قبر ، ولا امّ تحبّ وليدها، وانّ انوار السماء قد خمدت وانّ قلب الانسان قد مات!” فلكي يكتب الشاعر بيتًا لا بدّ ان يعرف طباع الناس وطيران العصافير وحركة الازهار الرقيقة حين تتفتّح في الصباح، ولا بدّ كذلك من ان يمتلك ذكريات كثيرة عن ليالي حبّ غابرة، كل ليلة منها لا تشبه اختها. فالشعر ليس فقط مشاعر واحاسيس، انّه تجارب العمر كلّه.
وربّما تجارب اخي شوقي في مرتع طفولته عين عنوب وفي ملاذ صباه وشبابه بلغاريا ما يغنيه فكرًا وغِنىً وإلهامًا فيغنينا عطاء لا ينضب.
وبعد هل يقدر الانسان ان يقيّم نفسه، اراني اليوم اقيّمني من خلال شوقي فهو وانا واحدٌ في شخصين، رفقة درب ولو تجاوزته العمر بسنوات، هل ترانا شقّ وسطيح كما توفيق يوسف عواد في “حصاد العمر”، علّ الايام تثبت ذلك.