أليس أشقى الكتابة وأصعبها وأكثرها تكراراً واعياً من الكاتب العربي للمقاطع والنصوص عندما يقع حبره بين حرائق الغاز والنفط والماء والشقاء يختلطان ببحور الفقر والجوع والمرض والعتمة ومحيطاتٍ من الإنهيارات الشاملة تتكرّر برتابة وقعود وعجز عبثي في مطارح القيادات العفنة بالنزاعات الدينية والسياسية والطائفية؟
في الجواب: لا قيمة بعد للنصوص والمقالات في بلاد غريبة عجيبة أُتخم بها القرّاء على ندرتهم ، في زمن هويته الإنقسام بين محموعات لم ولن تجتمع أو تتعانق أو تتأهّل ولو أحرق المتديّنون أو السياسيون العابرون السماء والأرض وإلى أيّ مذهبٍ أو حزبٍ انتموا.
وليس من اللياقة في الإبداع والموقف، أن يستمرّ كاتب يُصدق فينا، فيطرح نصوصاً للقراءة أو للمناقشة في إطار من العقلانيّة ورصف الحجج والبراهين الهندسية في زمنٍ سريع، نلهث وراءه جميعاً بالأذن والعين والحبر وهو يدور وحيداً سائحاً بين مدن العرب وأحزانهم الطويلة. هو دم عربي واحد وهموم واحدة فوق أرصفة فلسطين ومصر وتونس وسوريا وليبيا واليمن ولبنان، نقفز فيه جميعاً نطفاً وفي رحمٍ واحد من دمعةٍ إلى أخرى ليخرج واحدنا في نص خجول قد لا يساوي زفرةً بلهارسيا سخيفة ناطقة بحرية الأقلام والألسنة في أزمات حضارتنا والأديان.
تتنهّد النصوص العربيّة والإسلامية عقوداً أمام عجزها، وتطوي رموشها خجلاً وخوفاً بل رعبا من ذبول القول والكتابة وموتهما في الامتداد العربي المجبول بتراكم الأزمات. ليس سهلاً، الإفصاح عن مدى العجز والقهر والمكابدة لدى الكتّاب والمفكّرين والمثقفين وأساتذة الجامعات، وأنا فيهم ومنهم، أضع، كلّ لحظة، يد حبري على قلب لبنان منتظراً عواصم العرب والعالم، لأقيس أو أنقل مدى الخوف من الحروب تُطلّ من المستقبل القريب، ثمّ أتفحّص مدى ضيق العرب والعالم في أخبارنا ومآسينا وسخافاتنا، بعدما كانوا قفران نحل نحو الخضرة في لبنان. عمّ أبحث في الكتابة المتكرّرة المقتضبة في بؤس لبنان سوى الخوف العارم ممّا لم يُورثنا حتّى رماد التغيير؟
فلنقل عالياً: لقد رموا بالتعاون بل بالإرتماء في حضن كلّ خارج وطناً فقد حدوده الظاهرة أو الباقية بين أصابع الدول الكبرى وسفرائها والبنوك الدولية وتطلّعاتها، وتابعوا انقساماتهم وتقسيمنا مجدداً بين شرق وشرق وغرب وشرق ودين ودين وطائفة وطائفة ومسؤول حقير ومسؤول أحقر، في شرق فقد صفاته الوسطية وكأنّه لم يعد سوى ممرّ نحو النهايات في الشرق الأقصى. لن يفيد أبداً أية دولةٍ مسكونةٍ بأحلام إستيلاد التجربة الإشلامية العثمانية التي حكمت بلاد الإسلام أربعة قرون، أو التفكير حتّى في استعادتها منذ ميلاد إيران الإسلامية وتشظيات الدول الإسلامية وتبعثرها وبعث الأحلام الإمبراطورية القديمة ألعاباً خشبية في أذهان وارثيها.
أيصدّقّ واحدنا قيمة نصّه في صحيفة وموقع أو رأيه في قاعةٍ أو مقهى أو خلف شاشةٍ، عندما يغلي الواقع المرّ بدماء الأطفال والشيوخ والنساء الذين يشحذون اللقمة وكسرة الرغيف وهم يشابهون النصوص المبعثرة الميتة أو الرمادية أو الطيورالتي إنسلخت من أعشاشها نحو الشمال تُرافقها أمواج البحر العاتية لتغرق السفن ولا جواز سفرٍ لهم ولا أرقام أو أسماء صحيحة ولا حتى فسحة للصلوات عليهم ولا أمكنةً أو أزمنةً لتقبّل بقاياهم دمعة العزاء؟
حتماً لا وزن للنصّوص والمقالات بعد في عيوننا وأذهاننا وانتظاراتنا نتفحّص من خلالها مستقبلنا عندما نراها كلّها مثل أطفالنا يقعون في برك الجوع والذلّ والدم صغاراً قبل أن يتسنّى لهم طرح أسئلتهم الطريّة في الحرية والحياة. لا وقع ولا قيمة لحبرٍ يخرج من شراييننا وتحت أبصارنا ولو صارخاً مع كلّ حرفٍ قبل جمعه في أرحام الإنتماء والخيال وتوحيده المستحيل في نشيدٍ لم يعرفه أحفادنا وآجيالنا الجديدة قبل أن نغيب أو نسقط في صمت الشيخوخة البليغة. لا يموت الحبر النظيف لكنه لن يسمح له بدخول المدارس والجامعات ولن يسمح بقراءته بأمر من أصحاب اللحى السوداء والملثّمون!
نعم … سنكتب في عصر الملثّمين الكثر.
سنكتب ونحن نقطن العروبة العادلة الحضارية المتطلّعة بمعانيها ومراميها العالية واصفين أو ناقلين أو مترجمين بصدقٍ مرارة الواقع،رافعين البراهين على استمرارية الانتماء إلى مجتمعاتنا، وأوطاننا، وأمّتنا، وإلى الإنسانيّة التي قد لن تقرأنا وهي لم ولن تفهمنا.
لماذا؟
لأنّنا لا نملك سوى نصوصنا نشتري بها الرغيف لنعيش ونورثها تاريخاً حزيناً لبناتنا وأولادنا وأحفادنا لربّما نخلّص تاريخنا المتلحّف بالأخطاء والجشع والفساد. لم يبق بين أيدينا سوى نصوصنا القادرة على رسم حياتنا المقيتة بين نصف الحياة ونصف الموت.